بكلماتٍ قليلةٍ موجزة قَطَع القيادي السابق بنظام البشير غازي صلاح الدين العتباني باستحالة عودة النظام القديم لسدة الحكم، إذ صرَّح لصحيفة الرأي العام بقوله: "من الحماقة المراهنة والاعتماد على احتمالات ثورة مضادة، يقوم بها أناس صدر في شأنهم حكم التاريخ".
لم يكن هذا التصريح غريباً على رجلٍ معروف بأنه صاحب مواقف تتصف بالشجاعة والقدرة على قول الحقائق مهما كانت مُرّة، فقد سبق أن كرر هذا الموقف عندما اندلعت تظاهرات سبتمبر/أيلول من العام 2013، والتي أجهضتها أجهزة الأمن والميليشيات بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، فأردت منهم نحو 200 قتيل في بضعة أيام، لم يعترف النظام سوى بـ80 من الضحايا، وخلصت لجنة التحقيق الصورية التي شكَّلها البرلمان آنذاك إلى أن القتلى سقطوا برصاصٍ أُطلق من سيارات مجهولة.
بعد تلك المجزرة نفض العتباني يدَه من حزب المؤتمر الوطني نهائياً، فقد كان يحتفظ معه بـ "شعرة معاوية" منذ استقالته من القصر الجمهوري عام 2003، وهذه قصة أخرى سنعود إليها. فالثابت أن غازي كان واحداً من 30 شخصية إصلاحية في حزب المؤتمر الوطني، وجَّهوا رسالةً إلى البشير قبل 6 أعوام اتَّهموا فيها الحكومة بخيانة الأسس الإسلامية، عبر قمعها التظاهرات التي اندلعت في نهاية سبتمبر/أيلول، وبداية أكتوبر/تشرين الأول 2013، ضد زيادة أسعار المحروقات.
المذكرة التي رُفعت للبشير في تلك الفترة وقَّع عليها إسلاميون من الوزن الثقيل، مثل نائب أمين الحركة الإسلامية السابق، حسن عثمان رزق، والعميد معاش محمد إبراهيم عبدالجليل قائد المحاولة الانقلابية التي حدثت عام 2012، الشهير بـ "ود إبراهيم"، والقيادي في مجموعة "سائحون"، المكونة من المجاهدين السابقين الذي قاتلوا مع حكومة البشير في أثناء حرب الجنوب، أسامة توفيق.
أبرز ما ورد في المذكرة الإصلاحية هو الانتقاد الشديد الذي وجَّهه الموقّعون عليها للخطاب الحكومي المستفز للمواطنين، بما في ذلك خطابات البشير، الذي كان يصف معارضيه بأنهم "خونة، ومرتزقة، وشذاذ آفاق، ومندسين"، وعدم سماح الحكومة بالتظاهر السلمي وقمعها للمتظاهرين وقتلهم بالرصاص الحي.
حملت المذكرة الإصلاحية سبعة مطالب وهي: وقف الإجراءات الاقتصادية، وإسناد الملف الاقتصادي لفريق اقتصادي وطني مهني يُدعّم بعناصر من القوى السياسية، تتمثل مهمته في وضع معالجات للأزمة في غضون أسبوعين، وتشكيل آلية وفاق وطني من القوى السياسية لمعالجة الموضوعات السياسية، ووقف الرقابة على الصحف ووسائل الإعلام، وإطلاق الحريات المكفولة بالدستور ومن بينها حرية التظاهر السلمي، وإجراء تحقيقات محايدة حول إطلاق الذخيرة الحية على المواطنين، ومعاقبة المسؤولين عن هذا الأمر، وتعويض المواطنين المتضررين جراء القتل، والمصابين والتخريب.
أكاد أجزم أن تلكم المذكرة لو وافق عليها البشير آنذاك لما اندلعت ثورة ديسمبر/كانون الأول، التي اندلعت لتراكماتٍ عديدةٍ، من بينها ذاك الخطاب الاستعلائي المستفز، ولكنه الغرور الأجوف، والرضوخ التام لآراء المتملقين والمنافقين الذين كانوا يزينون له أن الأمور على ما يرام، وأن السواد الأعظم من أبناء الشعب السوداني يحبونه، وأنهم ممتنون لما قدّمه لهم من إنجازاتٍ وهمية، يستدلون على ذلك بالحشود الخداعية التي كانت تُصنع عندما يريد أن يلقي خطاباً من خطاباته المكررة، والتي حفظها الشعب عن ظهر قلب على مدى 30 عاماً من التسويف والوعود الكاذبة، إلى أن استيقظ من أوهامه فجر الـ11 من أبريل/نيسان الماضي، عندما أخبره ضباط الجيش أن اللجنة الأمنية التي شكّلها بنفسه قرّرت عزله عن الحكم.
بتصريحاته الأخيرة لصحيفة "الرأي العام" أراد غازي صلاح الدين أن يضيف موقفاً جديداً إلى مواقفه المشرفة التي كان أولها تقديمه للاستقالة من رئاسة وفد التفاوض الحكومي مع الحركة الشعبية المعارِضة في العام 2004، أي قبل توقيع اتفاق السلام الشامل مع المتمردين الجنوبيين، وقال حينها إن استقالته جاءت لأسباب تتعلق بعدم رضاه عن الطريقة التي تتم بها المفاوضات مع الحركة الشعبية. ومع أن غازي تحفَّظ على ذكر تفاصيل الاستقالة من رئاسة الوفد الحكومي، ومن منصب مستشار الرئيس لشؤون السلام إلى اليوم رغم بريق السلطة وشهوتها، فإنه تسّرب أن الرجل لم يكن راضياً عن اتفاق الترتيبات الأمنية، وعن منهج التفاوض الذي أفضى في نهاية المطاف إلى انفصال جنوب السودان.
ذكرنا نموذجين لمواقف صلاح الدين من باب الإنصاف، ولكي نقول إن هذا النهج ليس غريباً عليه، رغم أن البعض يقسون على الرجل ويرون أنه في النهاية كان جزءاً من النظام البائد في فترة الـ15 عاماً الأولى التي تُعرف بفترة التمكين، وإقصاء كل من لا ينتمي إلى الحركة الإسلامية من مؤسسات الدولة، بالإضافة إلى الانتهاكات والتصفيات الجسدية في معتقلات الأمن ذات السمعة السيئة، والتي عُرفت باسم "بيوت الأشباح".
وعندما يقول غازي إنّ النظام القديم ليست لديه فرصة للعودة مجدداً، وإن منسوبي النظام القديم عليهم أن يتأكّدوا أن العالم تغيَّر وأنَّ التغيير بصورة لا رجعة فيها. فهو لا يعنى نظام البشير فحسب، بل كأنه يخاطب كل المنتمين للتيارات المحسوبة على الإسلام السياسي بما فيها الأحزاب المعارضة كحزبه الإصلاح الآن، وجماعة الإخوان المسلمين وتيار نصرة الشريعة، وغيرهم من الكيانات التي لُوحظ أنها تنشط بقوة في الأيام الماضية بهدف تشويه صورة الحكومة الجديدة، وتدمغها بمعاداة الإسلام وهوية الشعب السوداني، ومن الواضح أنها تراهن على فشل حكومة ما بعد البشير، وتُمنّي نفسَها بالعودة مجدداً إلى السلطة.
لم يقُل صلاح الدين إلا الحقيقة المطلقة، فالسواد الأعظم من الشارع السوداني يعتبر منسوبي النظام البائد والمنتمين للمؤتمر الشعبي وبقية أحزاب الإسلام السياسي أنهم جميعاً "كيزان" ينتمون إلى مدرسة فكرية واحدة، فأصبحت كلمة "كوز" كالوصمة، وارتبطت في أذهان السودانيين بالانتهازية والسرقة وارتكاب الموبقات. رغم المواقف المشرفة لبعض المحسوبين على التيار الإسلامي، مثل العتباني وحسن رزق صاحب العبارة الشهيرة "تسقط بس" التي قالها في بداية الحراك الثوري، عندما كان يتحدث إلى مذيعة قناة "العربية الحدث" تسابيح خاطر.
على الإسلاميين في السودان بمختلف جماعاتهم أن يعوا الدرس، ويستمعوا لنصيحة غازي صلاح الدين، فبدلاً من سعيهم المحموم لتشويه صورة الحكومة المدنية، وانجرافهم للتحالف مع أعضاء اللجنة الأمنية السابقة لنظام البشير ممثلة في أعضاء المجلس السيادي الحالي من العسكريين، خاصة البرهان وحميدتي، كما يفعل إبراهيم غندور رئيس المؤتمر الوطني المكلف، الذي أخذ يتملّق العسكريين مؤخراً.
الحل الوحيد الذي أمامهم هو الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبوها في حقّ الشعب، والاعتذار عنها، ثم الشروع في إجراء مراجعات متعمّقة لتجربة حكمهم التي امتدت على مدى 3 عقود، أفضت إلى ما نحن عليه من اقتصاد منهار ووضع سياسي وأمني ومجتمعي مضطرب، فضلاً عن علاقات خارجية سيئة مع دول العالم المؤثرة وضم البلاد إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب، والأهم من كل ذلك مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين من أبناء الوطن داخلياً وخارجياً.
الرسالة الأخرى نضعها في بريد الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك والقوى الموقعة على إعلان الحرية والتغيير، نقول لهم فيها: "لا تضعوا جميع الإسلاميين في كفة واحدة"، وندعوهم أيضاً للاستماع إلى المفكر المعروف الحاج ورّاق، الذي قسّم إسلاميي السودان إلى ثلاثة تيارات: الأول متماهٍ مع الاستبداد والفساد، وظلَّ داعماً لنظام البشير لآخر لحظة، وتورَّط في قتل الثوار، والثاني هو مجموعة "تجديد المنقار"، أي استبدال رأس النظام فقط، والتي كانت تسعى لتغيير جزئي ومتحكم فيه عبر الإطاحة بالبشير، وفي ذات الوقت العمل ضد المعارضة حتى لا تكون هي البديل، وهذان التياران خيارهما الانقلاب العسكري. أما الجزء الثالث كما يراه ورّاق فهم "الإسلاميون الراغبون حقيقة في التغيير، وساهموا في الثورة، من أمثال هشام الشواني والمعلم الشهيد أحمد الخير"، وهؤلاء يرى أن تستوعبهم قوى التغيير. منوهاً إلى أن الانقلابيين "العساكر والإسلاميين المتشددين" يسعون لكسب هذا التيار وغيره من "الإسلاميين" على الرصيف، وحشدهم خلف "انقلاب الثورة المضادة".
نعلِّق على حديث الحاج ورّاق بأنه حتى لو كانت احتمالات نجاح الثورة المضادة معدومة كما يرى العتباني، فإنه من الأفضل استيعاب من لم تتلوث أياديهم من الكوادر الإسلامية، ضمن ما تبقى من هياكل الحكومة الانتقالية كوزراء الدولة، إلى جانب ولاة الولايات والمجلس التشريعي الذي يفترض أن يتم تشكيله خلال الفترة المقبلة.
ذلك أن اتخاذ هذه الخطوة يخفف من حدة الاحتقان السياسي، ويُسكت الانتقادات الموجهة إلى حكومة حمدوك بأنها مكونة من أحزاب ذات توجه يساري فقط، وهناك نماذج مشرفة لأشخاص تم تعيينهم في الأيام الماضية من خارج الأحزاب السياسية اليسارية، كالدكتور أسامة عبدالرحيم، المنتمي لجماعة أنصار السنة، تيار الإصلاح، الذي تم تعيينه مديراً عاماً لوزارة الصحة في ولاية الخرطوم، وهو طبيب ذو سمعة ممتازة، استقبله الموظفون استقبالاً حاراً عند وصوله إلى مقر الوزارة، ويتحرك بصورة مذهلة لتحسين الأوضاع الصحية في العاصمة الخرطوم، التي تمثل وحدَها سوداناً مصغراً.
إن نظام الإنقاذ البائد فشِل في الحكم عندما ارتكب أول أخطائه، وهو الإقصاء من مؤسسات الدولة، لكل من لا ينتمي لفكره ومدرسته، فالرسالة الأخيرة إلى رئيس الوزراء حمدوك أن المجال السياسي يجب أن يقبل المساومات والتنازلات تحقيقاً للاستقرار، من دون المساس بقيم الثورة، ومن أهمها إصلاح أجهزة الدولة، وإبعاد كل الفاسدين، وكل من تسلَّق أو أتى به تمكين حزب البشير من دون مؤهلاتٍ ولا كفاءة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.