من «دولة الرفاهية» إلى «دولة الإفقار».. هكذا عاد الظلم وأصبحنا فقراء

عربي بوست
تم النشر: 2019/11/04 الساعة 16:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/11/04 الساعة 16:11 بتوقيت غرينتش

"يجب أن تُزرع بين الطبقات صاحبة الياقات الزرقاء، هؤلاء الأكثر عدداً والأقل تعليماً، فكرة أن الدولة ليست فقط مؤسسة الضرورة، ولكن أيضاً مؤسسة الرفاه. فعن طريق مزايا وهبات مباشرة يحصلون عليها يجب أن يعرفوا أن الدولة ليست مؤسس من أجل حماية الطبقات ذات الوضع الأفضل في المجتمع، ولكن أيضاً لخدمة حاجاتهم ومصالحهم" 

. مستشار الإمبراطورية الألمانية أوتو فون بسمارك 1881

يُمكننا أن نعتبر وبكثير من الثقة أن القرن العشرين هو المختبر الكبير الذي اختبرت فيه البشرية أهم نظرياتها السياسية ومشاريعها الاقتصادية، فشل منها ما فشل ونجح منها ما نجح، لكن أهم ما اختبرناه وقتها كان اختراع "دولة الرفاهية". وبذات الثقة يمكننا القول بأنه المشروع الوحيد الذي حقق نتائج وآثاراً مازلنا قادرين على لمسها وملاحظة تأثيرها في حياتنا حتى اللحظة، وذلك على الرغم من البروباغندا والحملات الدعائية المضادة التي تتحدث عن فشل المشروع.

الثورة البلشفية تغير مجرى التاريخ

خلال القرن العشرين تم اختبار ثلاثة نماذج اقتصادية رئيسية. في العشرين عاماً الاولى من القرن العشرين وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى كان الوضع الاقتصادي لا يختلف كثيراً عما نعيشه اليوم. كانت الفروق الطبقية والمادية ضخمة للغاية بين أصحاب رأس المال وملاك المصانع والأراضي وبين العمال المنتشرين في المدن وضواحيها ويعيشون في أوضاع اجتماعية ومادية متدهورة للغاية. وذلك دون أن تدعمهم الدولة وفي ظل غياب نقابات تدافع عن حقوقهم، كان العمال لقمة سائغة للظروف غير الآدمية تفعل بهم الأفاعيل بينما تكتفي الدولة بدور المشاهد.

لكن هذا الوضع تغير كثيراً بنجاح الثورة الروسية وصعود البلاشفة إلى السلطة في روسيا واعتمادهم برنامج اقتصادي قائم على التخطيط المركزي والموجه لتحقيق أهداف الخطط الخمسية. ليرى العالم أول برنامج اقتصادي قائماً على التأميم والسيطرة التامة على جميع المصانع والشركات تحت سُلطة الدولة التي توجهها أينما تقتضي الحاجة.

وفي المقابل من هذا المشروع ظهر برنامج اقتصادي آخر في الغرب الأوروبي وفي الولايات المتحدة الأميركية، وكانت الحاجة إلى ذلك المشروع ماسة للغاية على إثر الكساد العظيم في عام 1929. يقوم ذلك البرنامج على فكرة أساسية، ألا وهي تدخل الدولة في السوق لتعديل موازين العرض والطلب للسيطرة على معدلات البطالة، مع تقديم برامج إعانة ورعاية صحية وفرض ضرائب تصاعدية على الأجور، وهي بذلك تدعم السواد الأعظم من المواطنين وتوفر لهم هامش أمان وعدالة على حساب الشرائح العليا في المجتمع الأكثر ثراءً. ويُعد النموذج الأمريكي من دولة الرفاه واحداً من أهم التجارب التي تستحق التأمل.

الصفقة الجديدة في أمريكا

كانت الاعتراضات ضد انعدام العدالة وغياب المساواة في ثلاثينيات القرن العشرين تقابل دائماً بإجابة واحدة؛ أن هذه هي طبيعة الأمور ولا يوجد لدينا ما نفعله، فالدولة الجيدة هي الدولة التي لا تدخل مطلقاً في أي شيء.

وكما تخبرنا البروباغندا فالاقتصاد لابد وان يكون حراً، ولا يجب أن تخضع الأسواق لأي محاولات للسيطرة أو حتى فرض الضرائب على رؤوس الأموال الضخمة حتى لا يتم تخريب الاقتصاد وانهياره. وهي الإجابة التي عرفنا فيما بعد أنها مجرد إجابة ضالة ومضلة لحماية الطبقات الأغنى والأكثر قوة ليست نبوءة أو حقيقة علمية كما يفترض بعلم الاقتصاد أن يقدم.

منذ الثلاثينيات حتى الخمسينيات نجح رئيسا الولايات المتحدة الأمريكية فرانكلين روزفلت وهاري ترومان في تطبيق سياسات اقتصادية فعالة مكنتهم من إعادة توزيع الثروة ودعم المساواة بين الشرائح الأكبر من المواطنين الأمريكيين. ليجعلوا من أميركا "أمة الطبقة الوسطى"، بحلول منتصف الخمسينيات كان الدخل الحقيقي لفئة الـ 1% الأغنى في المجتمع أقل بنسبة تتراوح بين الـ (20% لـ 30%) مما كانت عليه قبل 30 عاماً. 

وخلال تلك الفترة تضاعف دخل عائلات الطبقة المتوسطة وعاشت تلك الفئة في أمان وظيفي يضمن لها قدراً معقولاً من الرفاهية والمزايا الحيوية مثل تأمين البطالة والضمان الاجتماعي للمتقاعدين وبرامج الرعاية الصحية التي تغطي ما يزيد عن 60% من المواطنين.

وعلى الجانب الآخر اختفت كل المظاهر الثقافية المميزة لفاحشي الثراء مثل القصور التي تحتوي على جيوش من الخدم، وبدأت الأزياء التي تصممها المتاجر الراقية في الاندثار لانخفاض قدرتهم الشرائية وعدم استطاعتهم تدبير وجود مثل هذه المظاهر.

ويمكننا أن نُلخّص سياسات الصفقة الجديدة التي أنشأت الطبقة الوسطى وقامت بعمل انضغاط اجتماعي في ثلاث سياسات بالتحديد؛ أولها فرض ضرائب تصاعدية على الأغنياء، فالانخفاض المفاجئ لثروات الأغنياء كان سببه الأول "الضرائب" والتي ارتفعت ليصل الحد الأعلى لها 63% خلال الفترة الأولى لإدارة روزفلت ثم رفعت مرة أخرى إلى 79% خلال الفترة الثانية وبحلول الحرب الباردة وصلت إلى 91%. انخفاض ثروات الأغنياء لم يكن بفعل انخفاض الأرباح، لكن بسبب تصاعد الحد الأقصى للضرائب إلى هذا الحد من ناحية، ومن ناحية أخرى فرض ضرائب على الثروات التي تُمرر داخل العائلات من خلال الميراث لتصل حتى 77% وهكذا أصبحت ثروات أقل تركزاً في يد القلة وأعلى توزيعاً على الأغلبية.

السياسة الثانية من حزمة سياسات الصفقة الجديدة كانت دعم "النقابات". حكومات "الصفقة الجديدة" دعمت توسع النقابات من خلال تمرير حزمة من القوانين تعطي للعاملين في الصناعة حق التنظيم الذاتي بهدف التفاوض الجماعي، لتزداد قوة الحركة النقابية مقارنة بفترة العشرينيات من القرن الماضي لتحظى بدعم الحكومة بدلاً تعسفها فيما مضى وبدلاً من تدخل الدولة مباشرة في كسر الإضرابات وتحطيم النقابات.

السياسة الثالثة كانت متعلقة بموقف الحكومة من مسألة "الأجور". تدخلت الحكومة من أجل تحديد الأجور في القطاع الخاص، بعد الحرب العالمية قام روزفلت بتفعيل "مجلس عمل الحرب الوطني" الذي عمل على تحديد أجور العاملين بحيث يمنع ارتفاعها بالنسبة لذوي الدخول المرتفعة ويدفع بتلك الزيادات إلي أصحاب الدخول المنخفضة لمواجهة آثار التضخم الناتجة عن الحرب، وعلى الرغم من انتهاء الحرب إلا أن هذة السياسة بقيت على قيد الحياة، وأدت فترة ازدهار ما بعد الحرب إلى تضاعف الدخل الحقيقي للعائلة من 22 ألف دولار إلى 44 ألف دولار أي معدل نمو سنوي 2.7%.

وعليه أصبحت حالة المجتمع الأمريكي أكثر رخاءً لأن الاقتصاد قد أدى أداءً حسناً للغاية على عكس ما تنبأ به الكثير من الشخصيات العامة وأصحاب المصالح والنفوذ، وهؤلاء هم من سيبدأون في تحطيم تلك الصفقة في الثمانينيات.

عودة الظلم وغياب العدالة

مرت الصفقة الجديدة بثلاثة مراحل؛ مرحلة الازدهار من 1947 إلى 1973 وزمن الاضطرابات والركود التضخمي من 1973 إلى 1980 ثم عصر النمو المعقول وبداية سياسات اللا مساواة وصولاً إلى نهاية الصفقة من 1980 وحتى الآن.

وكما جاءت الصفقة الجديدة كرد فعل سياسي على أزمة الكساد الكبير وانهيار الاقتصاد العالمي واندلاع الحرب العالمية، فإنها ستذهب أدراج الرياح بنفس الطريقة السياسية وليست الاقتصادية. فالاقتصاد الأمريكي والعالمي لم يتعرض للانهيار كما تم الادعاء ولكن المحافظين الجدد هم من أوقفوا مساره.

انطلقت في الستينيات حركة مدنية تطالب بحقوق السود والمهاجرين في أمريكا وضد الحرب في فيتنام. ولقد استثمر الجمهوريون هذه الاضطرابات الناشئة واستغلوا ردة فعل الجماهير البيضاء ضد هذه الحركة المدنية والتي ألصقت بها تهم الشيوعية والخيانة والانحلال والتمرد على القيم الأمريكية المحافظة. ومن خلال الخطابات الثقافية التي اعتمدت عليها هذه الحركة بدأت باجتذاب نوعين من الجماهير؛ القاعدة الأولى هي قواعد الجنوب من جمهور المواطنين البيض المحافظين والذين عملت سياسات الصفقة سابقاً لصالحهم وساهمت في ترقيهم طبقياً، ولكن تحت وطأة خطاب الاستقطاب بدأت في تشكيل قاعدة شعبية لسياسات المحافظين الجدد وجمهور ناخبيهم. والقاعدة الجماهيرية الأخرى هي قاعدة مجتمع الأعمال؛ فصناعة الأدوية تريد أن تبقي قوتها الاحتكارية على حالها، وصناعة التأمين تريد أن تتفادى التأمين الصحي، وتريد شركات الطاقة التحرر من عبء القيود التنظيمية الخاصة بالبيئة ويريد الجميع إعفاءات ضريبية، ويريد أصحاب المصانع الخلاص من النقابات وسطوتها.

فقدمت هذه القواعد الجماهيرية والداعمة كل الدعم والتأييد لحركة المحافظين الجدد التي قامت باستقطاب الحزب الجمهوري ناحية اليمين بعيداً عن ليبراليي الحزب الديموقراطي والبدء بالانقضاض على الصفقة الجديدة وتشكيل جماعات ضغط لصالح الشركات ومصالح رواد الأعمال. من ثم الاستحواذ على الانتخابات وبداية فرض برامجهم بتخفيض نفقات الحكومة في الرعاية الصحية والإعفاء الضريبي على رؤوس الأموال. بمعنى آخر "فقد استولت الحركة المحافظة على الحزب الجمهوري" ليصبح رونالد ريغان أول رئيس، يمثل هذه الحركة المحافظة، الذي يعتبر الضمان الاجتماعي "اشتراكية سريّة". وعليه فقد بدأ الجمهوريون بوضع الشخصيات الأكثر يمينية والأكثر مناصرة للسياسات النيوليبرالية في المواقع السياسية الفاعلة لإنهاء عصر الصفقة الجديدة بشكل نهائي. ومنذ ذلك الحين استمرت هذه السياسة لحزب المحافظين حتى يومنا هذا تتخذ أشكالاً أكثر تطرفاً مرة بعد أخرى ودعماً لكل سياسات اللامساواة وعدم العدالة التي تسعى حثيثاً لإنهاء هذا النموذج الاقتصادي الناجح وتعيد عقارب الساعة إلى الوراء وتشيع بروبغندا الحزب النيوليبرالية على أنها تنبؤ اقتصادي بحت وتحاول حذف ذلك النموذج من التاريخ الاقتصادي بكل الطرق.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مصطفى هشام
باحث مصري مهتم بالفلسفة والعلوم الإنسانية
باحث مصري مهتم بالفلسفة والعلوم الإنسانية