تضج الحسابات الشخصية في فيسبوك وتويتر بحادثة مقتل بائع الحُلي في قطار الإسكندرية – الأقصر 934.
يبدو الجميع كملائكة الرحمة بأجنحتها الباهرة وهم يكتبون أن "لو كنت هناك كنت دفعت تمنها".."لو كان حد قاللي كنت دفعتهم".. لكن الحقيقة أن الركاب أزاحوا وجوههم بعيداً بانتظار وقوع الكارثة.
في الأغلب، لم يكن تقدير الركاب الذين تمكنوا من توفير ثمن التذكرة لمعنى "الذهاب لقسم الشرطة" بواقعية معنى العبارة للبائع المتجول.
لأن وعي الركاب يتشكل غالباً من أجهزة الإعلام والتعليم؛ لأن صورة الدولة عندهم أقرب للمثال والفضيلة منها للواقع.
لكن للبائع الذي يبتاع كرامة العيش بقروش يحصلها بمشقة كبيرة من التجول في الشوارع والمواصلات، فالحقيقة أمر آخر. قسم الشرطة يعني السلخ والتعذيب حتى الموت، يعني صعق الكهرباء في المناطق الحساسة، يعني التعليق رأساً وبالعكس لأيام حتى يتجمع الدم والصديد في أسفل الجسد أو في الرأس.
قسم الشرطة يعني أن يدخل الإنسان من باب لا يعلم هل يخرج منه إلى القبر أم إلى سيارة قمامة تلقي بجثته على ناصية الطريق.
فالقبر والدفن والعزاء في الحالة الأولى يبدو أكثر "احتراماً" من أن تأكل الحيوانات جسداً هامداً في الطريق ولا يعرف الأهل هل مات عائلهم أو ابنهم أم لازال حياً في مكان ما على وجه الأرض، لكن هذا الحد من "الاحترام" ليس مضموناً في مصر.
يعرف البائع المتجول تلك الحقائق بالبديهة، فهو يهرب طوال النهار من أمناء الشرطة الذين يرونه "ذباباً" مزعجاً يعطل أعمالهم في ابتزاز المارين، في تفتيش هواتفهم واختراق حرماتهم، يعطل أعمال الجر إلى أقسام الشرطة بسبب وبدون سبب.
ولأن البائع المتجول لا يستقر بمكان واحد كسايس الطرق، لا يمكن لأفراد الأمن اغتصاب "الإتاوة" من جيبه قهراً، فهو يتنقل من مكان لآخر وزبونه ليس ماكثاً لساعات في الطريق، كما أنه لا يفيد دائماً في جمع المعلومات والتلصص على المارة، فانتقاله المتكرر لا يفيد في مهام التجسس التي تحترفها أجهزة الدولة وتعين لها "مخبراً لكل مواطن".
لهذا تحتد عداوة أفراد الأمن لهذة الفئة من "الغلابة"، فإن لم يكونوا أنفسهم مخبري مباحث مدسوسين في مواقع محفوظة بميدان التحرير ومحمد محمود وغيرهما، فهم ليسوا إلا عبئاً على أنشطة القمع اليومية، وانتفاعهم من المجال العام وشبكات الطرق والبنى التحتية التي تنشئها الدولة انتفاع مرفوض ومحرم؛ لأنه لا يفيد أهداف الضبط والتلصص التي أنشئت لها تلك البنى.
هل يتصور إلا الحمقى أن الطرق وشبكات النقل في مصر تهدف لخدمة المواطن الفقير؟
لهذا كان احتمال الموت فوراً أهون لـ "محمد عيد" من تسجيل محضر وجرّه إلى قسم الشرطة، لكن المشهد يحمل دلالة أخرى مثيرة للخوف أن تتحول البيروقراطية في بلد ما إلى مقصلة.
هذا الكمسري الذي فتح باب القطار وهو في سرعته الكاملة ليخير البائعين بين القفز منه أو دفع ثمن التذكرة لا يختلف في الحقيقة عن نموذج مدام "عفاف" القابعة خلف مكتب في نهاية كوريدور بالدور الثالث لمصلحة حكومية، وهي ترسل العجزة والمعاقين والأطفال وأصحاب العذر يميناً وشمالاً وذهاباً وإياباً من مصلحة لأخرى ومن مكتب لخزانة لختم لأمين عام يضع التوقيع الأخير بعد عشرات التوقيعات من المكاتب، فقط لتخبر المواطن "المسحول" قبيل الثالثة (موعد انصراف الموظفين) أن الطلب مرفوض لسبب كان ينبغي أن تنتبه "هي" له قبل أن تمارس هوايتها في إذلال المواطن الغلبان بين المكاتب والمصالح.
الفارق بين الكمسري المقبوض عليه الآن وبين نموذج مدام عفاف ليس في نوع الجريمة بل في درجتها فقط، فتجاهل الركاب لاستغاثات "عيد" ورفيقه، اهتمامهم بتصوير الحدث قبل إنقاذ الضحية، تصوّرهم المغلوط عن مدى توحش الأمن، كل هذا أفضى بالكمسري لفتح الباب لإلقاء البائعين عنوة وتهديدهم بالموت.
فهي عوامل مساعدة دللت عليها كلمات القتيل الأخيرة "القطر مفيهوش رجولة يا جدعان" لكن تبقى كلماته مع ذلك مهذبة أقل من مستوى الحدث.
فوحشية البيروقراط لازمتها سلبية قاتلة وتخاذل مريع من طرف الشهود وتركيز على "تسجيل" وتحصيل المصلحة الفردية الخاصة باجتذاب مزيد من المتابعين على صفحات التواصل.
يعني باختصار: حياة الإنسان ليست أهم من الـ "لايكات" و "الفولورز" في صفحات التواصل.
أما من جهة الضحية، فاحتمال الموت فوراً تحت القضبان أفضل كثيراً من الموت حرقاً، أو ذوباناً، أو صعقاً بالكهرباء في قسم الشرطة، فالتهمة الوحيدة لأي شاب يكتسب الرزق في شوارع مصر هي كونه "غلباناً" فقط.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.