"هل أنا فحسب أم أن العالم بأكمله هو الذي يصير أكثر جنوناً؟"
- الجوكر
من الصعب أن يتجنب قارئ جيد المقارنة الحتمية بين الجوكر ونيتشه. يعرف الناس نيتشه بوصفه فيلسوف القوة، الذي أعلن موت الإله وموت كافة القيم والأخلاق معه، حتى العقل، ليبقى مبدأ واحد هو مبدأ القوة الذي يعلن عن نفسه عبر تحطيم كل شيء، لكن ما لا يعرفه كثيرون عن نيتشه هو أنه بينما يعلن ذلك، فإنه لا يعلنه بنشوة الانتصار أو المرح، وإنما يعلنه بحزن، كأنه يعترف ويبشر بالمأساة.
ليست مصادفة أن نيتشه أعلن موت الإله على لسان مجنون (يستحضر نيتشه في وصفه شخصية الفيلسوف اليوناني القديم ديوجين، الذي كان يسير حاملاً مصباحه في وضح النهار): "ألم تسمعوا عن ذلك الرجل المجنون الذي كان مشعلاً فانوسه في وضح النهار، يركض في ساحة السوق ويصرخ دون انقطاع: إني أبحث عن الله! وكان هناك حشد من الذين لا يؤمنون بالله أخذوا يضحكون ويقولون: هل أضعناه، هل مات كطفل؟ حينئذ قفز المجنون بينهم وصرخ: أين الله؟ سأقول لكم: لقد قتلناه، نعم أنا وأنتم قتلناه! ولكن كيف فعلنا ذلك؟! كيف أمكننا أن نفرغ البحر، ما الذي فعلناه حتى تنفصل الأرض عن شمسها؟".
لا يبدو نيتشه هنا ذلك الملحد السعيد بموت الإله، وإنما على العكس، يبدو حزيناً تماماً لذلك، إنه يحمّل الملحدين مسؤولية هذا الموت الذي انتهت بعده إمكانية الحياة.
الجوكر هو ذلك المجنون الذي يعيش في عالم قد فقد الرحمة، هو عالم المدينة التي قتلت الرحمة وصار من الضروري تحطيمها. يقول الفيلسوف الألماني هربرت ماركوز إن المجتمع الحديث بكل ما فيه من تقنيات متقدمة هو عالم غير عقلاني، فعلى الرغم من أن التقنية قد جعلت حياتنا أكثر تحرراً، بعد أن كفت الإنسان احتياجاته المادية، أخذت تخلق احتياجات جديدة زائفة تتمثل في عالم السلع الذي يعيد الإنسان إلى العبودية إليه، فهو يبحث دائماً عن مزيد من الرفاهية، وهو في بحثه هذا نفسه يفقد السعادة والمتعة الحقيقية. إن الإنسان الذي تقدم إليه السلع بأشكالها وألوانها لم يعد لديه الفرصة ليفكر في الظروف التي يحيا فيها ليكتشف ما فيها من ظلم أو استغلال، لذلك فإن تلك المنظومة تحرمه من التفكير والنقد، تخيم اللاعقلانية في النهاية على هذا المجتمع.
العالم المجنون
يصور "الجوكر" هذا العالم المجنون منذ اللحظة الأولى. يبدأ الفيلم بمهرج يقف على باب محل، يقوم بتصفيته، ويحاول التخلص من مخزونه من البضائع، وهو يرفع لافتة تحمل شعاراً يستحق التوقف عنده: "كل شيء يجب أن يذهب". يسرق مجموعة من الفتيان تلك اللافتة، وبينما يركض المهرج وراءهم ليستعيدها، يتوقفون ليهشموا اللافتة على رأسه ويبرحونه ضرباً، بينما يصرخ أحدهم: "اضربوه لأنه ضعيف لا يمكن أن يفعل شيئاً. لاحقاً، وعوضاً عن تعويضه يقوم مديره في العمل بخصم ثمن اللوحة.
يتحرش ثلاثة من الفارهين بفتاة في المترو بلا سبب، وعندما يضحك الجوكر المصاب باضطراب عصبي أو نفسي يجبره على الضحك دون أن يكون شاعراً بالسعادة بالتأكيد، يوسعه هؤلاء الفارهون ضرباً، مما يدفعه إلى قتلهم بمسدس أهداه له رفيقه في العمل.
مرة أخرى يطرح السؤال: هل المشكلة أن الجوكر مجنون أم أن المشكلة في هذا المجتمع غير العاقل؟ إن الجوكر كما نعرف من البداية مريض نفسي أو عصبي، لكن هل المشكلة حقاً في مرض الجوكر، أم في كل هؤلاء الذين من حوله؟
في التلفزيون في أحد المشاهد بعد حادثة القتل التي وقعت في المترو، يظهر بشكل عابر توماس واين، وهو بدوره الشخصية الشهيرة في عالم الكوميكس، بوصفه والد باتمان، الشخص الثري الطيب الصالح الذي يسعى لخير المدينة. يقول واين: كلهم أبناؤنا. يقصد هؤلاء الثلاثة الذين ماتوا، ومن قتلهم الذي من المتوقع بالطبع أن يكون أحد الفقراء الكادحين في المدينة يبحث عن سرقة أو حتى عن انتقام. لكن تيم فليك (الجوكر)، وبعدما تخبره أمه بأن واين هو أبوه وأنه تخلى عنها بسبب فقرها، يذهب الجوكر إلى واين الذي يعتني بشدة بابنه الآخر بروس (باتمان كما نعرف من عالم الكوميكس)، من زوجته الغنية مارتا. يرفض واين الاعتراف بأبوته لتيم، الفقير المضطرب. لا يمكننا حتى نهاية الفيلم أن نؤكد أن واين كاذب، فوالدة تيم أيضاً مريضة نفسية، يمكن تماماً أن تصير عرضة للضلالات، لكننا لا يمكن أن نفصل بين تصريح واين: "كلهم أبناؤنا" وبين موقفه تجاه تيم. إن تيم لا يعرف إذا كان واين شخصاً صالحاً أم لا، ولا يعرف مدى صدقه، لكنه يعرف فقط أن الرجل الذي قال على التلفاز كلهم أبناؤنا قد رفض أبوته لأنه ابن المرأة البسيطة الفقيرة، بينما هو شديد الاعتناء بابنه الوسيم من زوجته الغنية.
يصرح الجوكر في مشهد ختامي بذلك الشعور عندما يقول صراحة: لقد بكيتم جميعاً لأبناء وول ستريت الثلاثة عندما قتلوا، لأن توماس واين ظهر في التلفزيون وبكى عليهم، أما نحن إذا مات أحدنا على الرصيف فسوف تطأونه وتواصلون السير.
إنها ليست الثورة، إنها المأساة
هل يمثل الجوكر بطلاً ثورياً أم مجرماً أم مجرد مجنون؟ لقد وُجهت الانتقادات إلى الفيلم لأنه يقدم الجوكر بوصفه مجرد مجنون، لا بطلاً يملك وعياً ثورياً بالخلل القائم ويسعى إلى إصلاحه. كما أشار كثيرون، تشبه شخصية الجوكر شخصية "سائق التاكسي" في فيلم المخرج الشهير مارتن سكورسيزي. إنهما ليسا بطلين ثوريين، وإنما أشخاص عاديون يكونون غالباً من أصحاب الاضطرابات النفسية الذين يعانون شعوراً بالنبذ الاجتماعي. لا تقود تلك الشخصيات ثورات رومانسية ينتصر فيها الخير على الشر، وإنما تخلق حالات عبثية من الفوضى الدموية.
لا يبشر الجوكر بالثورة بقدر ما يصرخ كديوجين، أو كمجنون نيتشه، بأن تلك المنظومة، تلك المدينة التي لا تلقي بالاً للمهمّشين، للمرضى، للمجانين، للفقراء، تسير إلى تلك الفوضى الدموية، إلى ثورة المهمشين التي تحيل المشهد إلى حرب الجميع ضد الجميع، بلا خير ولا شر، بلا صواب ولا خطأ، إنها ثورة عدمية تستهدف تدمير منظومة يشعر كل هؤلاء بأنها لا تلقي لهم بالاً، لا تنتمي إليهم ولا ينتمون إليها، وبالتالي لا تستحق بالنسبة لهم سوى التدمير.
أعترف بأن الفيلم لم يعجبني، لأن هذا النوع من الصراخ ومن الشخصيات ومن الثورات العدمية أشبه بتحذير أجوف، تحذير لا يمكن أن يمنع شيئاً، لأنه يكتفي بالعويل والإشارة الغامضة تماماً كالمجانين الذين كانوا يسمون في المناطق الشعبية بالبركة، يمكن فهم إشاراتهم على أنحاء مختلفة، ولا يمكن أن تفهم أصلاً أحياناً. رغم ذلك، علينا أن نعترف بأن مخرجين كسكورسيزي يطرحون ذلك عن وعي، وأن نقاداً كباراً كالفيلسوف الألماني توماس أدورنو كانوا يرون أن ذلك النوع من الفن، الفن الذي يكتفي بتصوير العبثية التي نحياها دون أن يدلي بنصيحة أو تحليل أو وجهة نظر، هو أكثر قدرة على تذكير الإنسان الغافل بحقيقة الحالة المأساوية التي يحيا فيها، من الفن الثوري التحريضي المباشر الذي يصيح في وجه الإنسان: عليك أن تثور.
بين فيليبس ونولان
من الصعب على مشاهد "الجوكر" ألا يعقد مقارنة واعية أو غير واعية بالجوكر الذي مثله الفنان الراحل هيث ليدجر، والمخرج كريستوفر نولان، في فيلم "فارس الظلام". نولان أيضاً يحذر في هذا الفيلم من تلك الثورية العدمية، يتغافل عن المنظومة التي أدت إلى ذلك التهميش وتلك العدمية. يظهر الجوكر عند نولان وكأنه هبط من السماء، لا حديث عن الظروف التي أنجبت لنا ذلك المجرم السيكوباتي العدمي.
في المقابل، يظهر توماس واين كشخص مثالي تقريباً، وتبدو حادثة قتله وزوجته أمام ابنهما (بروس واين، باتمان) حادثة عشوائية شديدة القسوة، قام بها إنسان بائس دون أن يقدر إلى أي مدى يعمل هذا الشخص الثري -لكن الكريم والمعطاء- لصالحه.
يرفض تود فيليبس، مخرج الفيلم، كل ذلك. إن الحادثة بقدر قسوتها على الطفل البريء تبدو متفهمة في ضوء امتلاء المدينة بالكادحين الذين لا يجدون من أمثال واين سوى الكلام، بينما الجوكر، وفي إشارة إلى مستقبله المرير يصنع من دمه ندبات على خديه، ليخلق ضحكته الحزينة والمفزعة، التي اشتهر بها وسبق أن ظهرت في "فارس الظلام".
يقدم لنا فيليبس ونولان وجهتَي نظر مختلفتين. تبقى وجهة النظر الثالثة مسكوتاً عنها. هل يمكن أن نخرج من ثنائية الثري الطيب والمختل الثائر إلى الثورة الواعية، إلى الحلم بمنظومة جديدة أكثر عدالة وأكثر جدية في استيعاب ثوار الهامش. إنني أميل إلى ذلك النوع من الفن، ليس لأنه أكثر جمالية بالضرورة، ولكن لأن الجمال إن وقف عاجزاً تماماً عن أن يقول شيئاً واضحاً لمن يراه، فإنه يُمسي جمالاً فارغاً يوشك أن يستحيل إلى قبح.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.