على محرك البحث "جوجل" يمكنك أن تكتب "ثورة جياع"، ليظهر أمامك آلاف المواد المكتوبة والمصورة، من مقالات وفيديوهات وأخبار وتحليلات، تشرح وتحكي وتتنبأ بانفجار هذا الشعب أو ذاك، وتحذّر من الفقراء إذا ثاروا ومن المعدَمين إذا نزلوا إلى الشوارع، وكثير من تلك التحليلات ذهب إلى أن ثورة الجياع هي الحالقة التي تحلق الدول فلا تُبقي فيها ولا تذر مثقال حبَّة من طعام أو شراب أو مؤسسات، لأنها تقوم في وجه الجميع ولا تستثني أحداً.
ديسمبر/كانون الأول 2010، شرارة الربيع العربي تنطلق من تونس بعد إحراق محمد البوعزيزي نفسه إثر تلقّيه صفعة من شرطية تونسية، وسرعان ما وصلت تلك الشرارة إلى جميع المدن التونسية التي انتفضت في وجه بن علي، مطالِبةً بالحرية، ثم تطور الأمر إلى مطالبات برحيل بن علي ونظامه، حتى رحل منتصف يناير/كانون الثاني من عام الربيع العربي 2011. وكذلك كان الحال مع مبارك في مصر بداية من انطلاقة الثورة في الخامس والعشرين من يناير وحتى رحيله في فبراير/شباط من العام نفسه.
ولكن ثمة قواسم مشتركة جمعت بين مُسبِّبات الموجة الأولى من الربيع العربي، لم يكن أحدها يتعلق بالواقع الاقتصادي وإن هتف المصريون بالعيش في هتافهم الأشَهر "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية"، ولكن المُسبِّب الأكبر لهذه الموجة الشعبية كان احتقاناً سياسياً حقيقياً وشيخوخة أصابت أنظمة عربية مترهلة حكمت بالحديد والنار سنوات طويلة، كانت النخب السياسية في كثير من الدول العربية تعمل سنوات طويلة سبقت لحظة انفجار الثورة، كان بعضها يشارك في انتخابات برلمانية والبعض الآخر يشكل حركات ضغط شعبية، واللافت أن رموز هذه النخب السياسية كانت تتمتع برصيد شعبي هائل يدعمها ويرى فيها الأمل في الخلاص.
ثماني سنوات كانت كافية لتثب الثورة المضادة على موجة الشعوب الأولى ولتفرض واقعاً أكثر سوءاً وظلاماً مما كانت عليه الأنظمة العربية التي حكمت ما قبل 2011، ولكن ثمة ما تغيَّر، ليس فقط فيما يخص طبيعة الحكم السلطوية واتساع نفوذ المؤسسات العسكرية في بعض البلدان كمصر، واتساع رقعة المال الخليجي والنفوذ الأجنبي كما حدث في ليبيا وسوريا واليمن، ولكنه أيضاً تغيُّر يتعلق بنظرة الشعوب المقهورة إلى النخب السياسية التي عادت إلى معسكر المعارضة مرة أخرى، تكشف زيف كثير من هذه النخب، فمنهم من ارتمى في أحضان الأنظمة الجديدة، وأكثرهم فقد رصيده لدى من اعتبروه رمزاً سياسياً يمكن التعويل عليه، أضف إلى ذلك فشل هذه النخب والأحزاب السياسية عربياً في فرض واقع مغاير لما كانت عليه البلدان العربية ما قبل 2011، ففي مصر تطالب النخب السياسية والمعارضة برحيل السيسي، ولكن إذا ما سألتهم: ما مشروعكم لما بعد السيسي؟ فلن يجيبك أحد! وإذا سألتهم: ما هو شكل الدولة ما بعد السيسي؟ فلن تجد تصوراً واضحاً، وإذا سألتهم: هل هناك رمز سياسي يمتلك شعبية حقيقية تستطيعون الالتفاف حوله، فسيختلفون كثيراً قبل أن تُدهشك إجاباتهم بأنه لا يوجد رمز حقيقي أفرزته سنوات الثورة العجاف.
وفي تونس لا يختلف الأمر وإن اختلفت الظروف، فرغم محاولات الأحزاب السياسية هناك العملَ على مشروع سياسي توافقي، فقد تبين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة أن الشعب التونسي قد ملَّ وضجر من كل الأحزاب والنخب السياسية، فقرر معاقبتهم وانتخاب قيس سعيّد، الرئيس التونسي الحالي الذي لم ينتمِ يوماً إلى حزب سياسي، ولم يبنِ حملته الانتخابية على أي تحالفات حزبية.
حالة العزوف الشعبي عن النخب السياسية العربية ظهرت جلية في الموجة الثانية من الاحتجاجات الشعبية والتي تتأرجح مسبباتها بين ما هو اجتماعي وما هو اقتصادي، فعندما انفجرت الاحتجاجات السودانية في وجه الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، كانوا يسمونها انتفاضة الخبز، واستمرت كذلك فترة حتى سقط قتلى، ثم تحولت إلى المطالبة برحيل النظام بأكمله، لم تتبع هذه التظاهرات أي نخب سياسية سودانية، وتجاوزتها وشكلت من داخلها كياناً آخر أصبح هو المتحدث باسم الثورة.
في لبنان لا يختلف المشهد كثيراً، فما فجَّر الاحتجاجات اللبنانية الحالية ليس قمعاً سياسياً أو انتهاكات لحقوق الإنسان وإنما ضريبة جديدة فرضتها الحكومة على الواتساب، فاندفع اللبنانيون إلى الشوارع، متجاوزين الأحزاب السياسية أيضاً والطوائف الحاكمة، ومطالبين برحيل الحكومة. ويمكنك ملاحظة الأمر نفسه في تظاهرات العراق الأخيرة، تظاهرات معترضة على فساد الحكومة، قررت تجاوز المرجعيات الحاكمة والطوائف المسيطرة على المشهد والانفجار في وجه الجميع، من أجل مطالب اقتصادية واجتماعية، وحتى في مصر ومع ظهور محمد علي وكل ما أحدثه من زخم، كانت القضية التي حركت المصريين في 20 سبتمبر/أيلول الماضي، هي التعبير عن الغضب من السيسي والفساد الذي أشار إليه محمد رغم كل الانتهاكات السياسية والإنسانية لهذا النظام العسكري، ولكنّ أحداً لم يتحرك.
تعاطي الأنظمة مع هذه الموجة من الاحتجاجات تعاطٍ اقتصادي بحت، فلم يتحدث أي مسؤول عربي عن إصلاحات سياسية، وإنما كان كل الحديث وكل الإجراءات التي أعلنها السيسي وأعقبه سعد الحريري وحتى الحكومة العراقية كلها، تصبّ في تخفيض ضرائب أو خفض أسعار مواصلات عامة أو توفير دعم أكبر على السلع، وهو ما يوضح الفارق الكبير بين هذه الموجة وسابقاتها في 2011.
لا يمكن القول إننا بصدد موجة ثانية وحقيقية من الربيع العربي، وإن كانت بذور الثورة تُسقى بماء الهتاف ضد الأنظمة الفاسدة والقمعية ولا يمكن توصيف ما يحدث أيضاً بثورة جياع، لأن ثورة الجياع لا ترفع أي مطالب سياسية ولا تُبدي أي نوع من أنواع الحراك بسلمية، ما يجري الآن هو تعبير عن غضب شعبي من الجميع أنظمة ونخب سياسية، وفيه رسالة واضحة بأن المواطن العربي يريد أن يحيا في ظروف آدمية، وتوفِّر له الدولة -أياً كان نظامها أو توجُّهها- الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.