يعيش الإنسان المقهور بين شقّي الرحى، ما بين ظروف قاسية تَطحنُه ولا تترك له سبيلاً للتخلص منها، وبين سيد مُتسلط يَستعبدُه لا يجد مناصاً من الرضوخ إليه. كل الشعوب لديها في ماضيها تلك الحقبة السوداء المُظلمة، التي كبّدت كل الأمم الكثير من الخسائر والتضحيات لعبورها.
في كتابه "سيكولوجية الجماهير" يقول غوستاف لوبون، وهو مؤسس علم نفسية الجماهير: "إن التقليص التدريجي لكل الحريات لدى بعض الشعوب يبدو أنه ناتج عن شيخوختها بقدر ما هو ناتج عن النظام السياسي، وهذا التقليص يُشكّل أحد الأعراض المنذرة بمجيء مرحلة الانحطاط التي لم تستطع أي حضارة في العالم أن تنجو منها حتى الآن".
تلك المرحلة تتميز بوصول الديكتاتور إلى أعلى مراحل استبداده واستعباده، وهي مرحلة الحضيض بالنسبة للمجتمع. يَفقد فيها الإنسان المقهور إنسانيته، ويخسر قيمته في نظر نفسه ويصل به الأمر لتبخيس قيمته في شكل مشاعر دونية وتأثيم. يبدأ المقهور في إيجاد مبررات لمن يحكمونه في الفتك به، ومع مرور الوقت يرى أنه يستحق ما نزل به من قسوة واستبداد للمتسلط، وهنا قد يبدأ نفسياً في أن يُصبح حليفاً له على نفسه. تجد هذا واضحاً في أقاويل وعبارات من قبيل "إحنا شعب مبيمشيش إلا بالكرباج، أصل إحنا مبنمشيش إلا كده، مصر مينفعهاش إلا واحد عسكري، إحنا شعب مش مؤهل للديمقراطية".
الأنظمة القمعية التي تبرعُ في تحويل مواطنيها إلى مجرد أرقام، لا يهم عدد القتلى أو المصابين أو المفقودين فيهم، فهم مجرد أرقام. علق تيموثي سنايدر المؤرخ الشهير على سمات الأنظمة الدكتاتورية في عهد ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي قائلاً: "إن النظامين النازي والسوفييتي حوّلا الناس إلى أرقام، بعضها يُمكننا تقديرها فقط، بعضها يُمكننا إعادة بنائه بدقة عادلة. إن الأمر بالنسبة لنا كعلماء للبحث عن هذه الأرقام ووضعها في منظورها الصحيح. إنما الأهم بالنسبة لنا كإنسانيين أن نعيد الأرقام إلى أشخاص. إذا لم نَتمكن من فعل ذلك، فإن هتلر وستالين لم يُشكلا عالمنا فقط، بل شكلا إنسانيتنا أيضاً".
المصيبة الأكبر أن هذا الإنسان المقهور الذي يشعر بالدونية، ما يلبث أن تنشأ بينه وبين أمثاله من المقهورين علاقة ازدراء ضمني، ويبدأ بالتسلط على مَن تطالهم يده، فيقوم بقهر الموظف الأدنى منه في السلم الوظيفي والذي بدوره يبدأ في التسلط على زوجته، والتي بدورها تبدأ في التسلط وقهر أبنائهم، وهؤلاء من ترونهم في نهاية المطاف يجري كلا منهم خلف الحيوانات في الشوارع ليقوموا بتعذيبها.
تذكرت هذا كله وأنا أسمع وأقرأ تفاصيل الحادث الدموي لمقتل طفلين من البائعين الجائلين في القطار المتجه من الإسكندرية إلى أسوان، حيث طلب "الكمسري"، مشرف القطار، منهما التذاكر إلا أنهما استقلا القطار دون شراء تذاكر للرحلة، وطالبهما الكمسري بدفع ثمن التذاكر والغرامة، وإلا سيكونون أمام خيارين: الأول أن يقوم بتسليمهما لشرطة النقل والمواصلات، والثاني أن يقوم الطفلان بالقفز فوراً من القطار، وقام المشرف بفتح باب القطار أثناء سيره ليقفز الطفلان، ما أدى إلى سقوط أحدهما أسفل عجلات القطار وتوفي في الحال وأصيب الآخر، وتم نقله لمستشفى طنطا العام.
أي وطن هذا الذي يصل فيه القهر للمرحلة التي لا يرى فيها إنسان أي غضاضة في إجبار أحدهم على التضحية بحياته دون أي واعظ أخلاقي أو ضمير يوقفه عن فعل هذا. أي وطن هذا الذي يرى فيه مواطن أن مخاطرته بحياته عن طريق إلقاء نفسه من قطار يتحرك هو أقل وطأة وخطراً من أن يُلقِي به أحدهم بين قبضة رجال الشرطة ببلده "المستقل" وليس المحتل. أي وطن هذا الذي يذعن فيه كل من شهد هذا الحادث الأليم بالقطار دون أي ردة فعل تجاه الحدث. كيف لوطن أن يخسر ذاته على طاولة القمار، إنه القهر في أشد صوره. يقول جدو كريشنامورتي: "لا تتأقلم مع واقعٍ مريض بل ثُر عليه، إنه ليس مقياساً سليماً لصحتك أن تكون متأقلماً بشكلٍ جيد مع مجتمع مريض للغاية".
وفى ظل غياب كامل لمنظومة الحساب فنحن نعلم جميعاً أن مَن آمن العقاب أساء الأدب، فما بالك بوطن ليس فيه أي وسيلة لمحاسبة المخطئ، أو لقصاص عادل من الجناة، كيف لوطن مثل هذا أن ينجو من الفتنة والظلم.
أيها الفرقاء ألا رفقاً بهذا الوطن، وبالفقراء من أبناء هذا الوطن.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.