“أصل الحكاية ماتضحَّكش”

عربي بوست
تم النشر: 2019/10/24 الساعة 15:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/10/25 الساعة 09:54 بتوقيت غرينتش
شوارع مصر تغرق بمياه الأمطار/ مواقع التواصل الاجتماعي

على الشاشة، يقف في يمين الصورة ضابط يمسك بجهازه اللاسلكي، ويبدو أنه يؤدي مهمته، وسط سيولٍ جرفت كرامة العاصمة، بجواره يقف بعض العمال الذين يفكرون في الموسم الثقيل على قلوبهم، تمطر السماء فيعلقون هم في الأرض حتى ترضى عنهم، ويقال "يا أرض ابلعي ماءكِ ويا سماء أقلعي". 

النفق يظهر كمجرى مائي، والحقيقة أنه نفق عادي لعبور السيارات، فوق الجسر بالأعلى يقف الناس يشاهدون الوضع، وهذا "سِلو بلدنا" في مصر؛ الفُرجة على كل شيء، حتى إن خبراء المفرقعات يعانون حين يُبلغ عن جسم يشتبه في كونه قنبلة، وفور وصولهم يجدون المكان مطوقاً بكردون بشري، كلهم جاؤوا يشاهدون القنبلة قبل أن تنفجر.

المهم، عند النفق، كان الجميع واقفاً في مكانه، يفكر أو يتفرج إلا واحداً، كان هو بطل المشهد تقريباً، يتحرك بملابسه الداخلية كالتي يرتديها آباؤنا جميعاً، فانلة بيضاء، وشورت أبيض، وشراب يدل على هيئته الوقورة قبل أن يخلع عنه ملابسه الخارجية، ويضعها تحت إبطه، ومعها حذاؤه، ليخوض هذا البحر الذي وجده في طريقه إلى العمل فجأة، فرأى أنَّ بالبيت عصافير تريد الطعام، ولا تتحمل خصم يومٍ واحد، وفي العمل مدير يريد العمل، ولا يتحمل غياب موظفٍ واحد، وعلى كل حالٍ فإنه يرى أن السيول التي تقضي بتوقف الدراسة والأشغال وكل شيء لا يمكن أن تكون حاجزاً بينه وبين أن يصل إلى عمله مهندماً كما هو مطلوب منه، وأن يعود إلى بيته بلباسه دون أن يبلى، كما هو متوقع منه، وألا يستلف جنيهات إضافية ليشتري قميصاً وبنطالاً جديدين، حين يغوص بالقدمين في الوحل والماء، فقرّر أن يحلّ المسألة بمعادلة صعبة، وقرَّرنا نحن والواقفون بالأعلى أن نضحك، لا لشيء إلا لأننا دائماً "مساكين بنضحك م البلوى" مع أن "الحكاية ماتضحَّكش".

في مشهدٍ آخر، سنجد مراكب تسير في الشوارع، بعيداً عن الموانئ والبحر، بعيداً عن الأسماك والشبكة، وسط البيوت التي في إحدى القرى الفقيرة، لا في "البندقية" الإيطالية، ولا "إسكي شهير" التركية، سنجد الناس يعبرون من زاوية إلى أخرى، من ناصية إلى ناصية، على أحجار متوسطة الحجم، أو عبر خشبة كالتي أنقذت بطلة "تايتانك"، أو على متن جرافة ضخمة تطوع صاحبها ليحمل الناس عليها كالحاويات، وينقلهم من جهة إلى جهة، وبعدها سينطلق كل منهم إلى معركة جديدة، كأننا في لعبة ننتقل خلالها من بيتٍ إلى بيت، حتى نصل إلى مرحلة الوحش حين نصير بالبيت الأخير، ونُفاجأ بأن الوضع أكبر مما تخيلنا، ويهزمنا الوحش حين نحصر الخسائر.

وأنا صغير، كانت أمي تحذرني كل صباح في الشتاء: لا تلمَس أعمدة الكهرباء، اسقط بوجهك في الماء ولا تستند إلى واحدٍ منها أبداً، وكنتُ أفعل، وكنتُ أُحذر من يفعل أن أمي قالت لي كذا، وأن فلاناً مات لأنه لمس العمود في ليلة ممطرة. وأنا كبير ما زالت أمي تحدثني عن خطر الأعمدة، أقول لها أنا في دولة أجنبية، ولديهم بنية جيدة، والمطر يهطل يوماً ويختفي في ساعة، والمطر يهطل نصف عامٍ ولا يقتل أحداً، لكنها لا تستوعب، تقول لي: "لا تلمس أعمدة الكهرباء، اسقط بوجهك في الماء ولا تستند إلى واحدٍ منها أبداً". 

كنا نتندَّر بالحكايات التي نخلقها، أو بالتي نراها، عن المطر والشتاء والسيول التي تجرف تصريحات المسؤولين وتختفي في أقرب "بالوعة مجاري"، كأنها مخصصة لشفط التصريحات لا لشفط المياه المتراكمة، كنا نتندّر، وفي الأصل الأمر غير قابل للتندر لولا أننا شعب "ابن نكتة"، و "طيب ابن حلال"، لا نتخيل أن بلداً ما في العالم يقاوم مواسم هياج السماء في الشتاء، اعتدنا أن الفصل يأتي فنفقد معه صديقاً لنا صعقاً بالكهرباء حين كان بينها وبين الماء، فمات مصعوقاً، ومات غريقاً، لم نكن نتخيل أن يمضي الشتاء دون أن تغرق بيوتُ البعض المبنية بالطين، وأن تلقى سيدة طاعنة في السن حتفها، ويقولون لنا: "موتة ربنا"، مع علمنا أنها اندثرت في الماء، أو سقطت بينما كانت تعبُر بين حجرين في بركة أمطار، لكننا كنا نضحك في النهاية، رغم أن "الحكاية ماتضّحكش".

ثم خرجنا من بلادنا فرأينا بلاداً تستطيع أن تقول للموت: تريّث، نحن نأخذ بالأسباب فاهدأ. فيتركها وينزل مصر، فيحصد منها ما شاء أن يحصد، ولا يجد مسؤولاً واحداً يعرف الله ليقول للموت: تريّث. لكنه في العادة كان يتذكر الله حين يسألونه عن الاستعدادات غير الكافية، وعن الأموال المهدرة، وعن الأرواح التي أزهقها الإهمال فيقول إنه "أمر الله"، ولا بد من ضحايا، وهو نفسه في الموسم نفسه يكون متحصناً ببيته المشيّد، ولا يعنيه المعذبون من أهل الله المساكين. حينها صرنا نبكي، وتخلينا عن الضحك لأول مرة، لأننا عرفنا أن "الحكاية ماتضحكش". 

في النفق ذاته، الذي شهد بطولة الموظف المصري المسكين، وعلى الجهة الأخرى كان رجلٌ آخر، لا يستعد أن يعبر بملابسه الداخلية، وإنما عبره الماء قبل أن يعبره هو، وفاجأه السيل بينما كان في سيارة العمل ربما، فظهر بنصفه العلوي، عارياً، وقريباً منه سيارة بضاعة، كانت بضاعة قبل أن تصير ضمن تعداد "التالف"، وربما سيظل عمره كله يلعن الشتاء، والمسؤولين، ونفسه، واليوم الذي نجا فيه من السيل ولم يمت، لأن "تحويشة عمره" لم يستطع إنقاذها في بلادٍ يأكل المسؤولون فيها على موائد عشائهم عشرة أضعاف ما يدّخره مثل هذا المسكين في عمره كله. ظهر الرجل وضحكنا، مع أن "الحكاية ماتضحكش".

على الجسرِ، أو تحت الكوبري، أو بإحدى النواصي، ستجد امرأةً كبيرةً، أو شاباً نصف عاقل نصف مجنون، تغرقهم المياه، يبكون، لكن لا أحد يستطيع أن يفرق بين ماء المطر وماء عيونهم إلا هم، ويظن الجميع أنهم غير معنيين بالبرد، لا يشعرون به، لأن الشارع يعطي إلى أهله مناعةً تمنعهم من الشعور بأي شيء، سنجد السيدة نائمة في بركة المياه، يائسة من المقاومة، قررت ألا تحتمي بشيء، أي شيء، لا رغبة في الموت، وإنما لأنه لا شيء يضمن لها الحياة، بالصدفة، بينما هي نائمة وسط المياه وتحت أكوام المطر المتساقط سيعبُر أحدهم، سيُخرج هاتفه ويمسحه بكُمه، ويتظاهر أنه يتحدّث في الهاتف كي لا يخدش مشاعرها إن رأته فجأة، سيلتقط الصورة، بينما يفعل ذلك كله، سينشرها سريعاً، ويكتب فوقها تعليقاً مصحوباً بوجه ضاحك، يقول فيه: "عِش الحياة ولا تبالِ"، أو "شعب ملهوش كتالوج"، سيتداولها الجميع، سيضحكون، مع أنه في الأصل "غضبان مابيضحكش، أصل الحكاية ماتضحكش".

ونحن كذلك، من بعيد، حين نراقب المساكين الضاحكين، وبلادنا بطلة الكوميديا السوداء في العالم، والمسؤولين أصحاب الشخصيات الشريرة في الحكايات، ونرى الابتسامات تعلو الوجوه مع كل أزمة، والضحك يدمع العيون في كل موسم مأساوي، نقول: "ياما ملينا وملينا.. لغيرنا وعطشنا سقينا.. صابرين وبحر ما يروينا.. شايلين بدل العلة علل"، ويسألوننا لماذا نضحك إذن أصلاً، فنقول: "مساكين بنضحك م البلوى.. زي الديوك والروح حلوة.. سارقاها م السكين حموة.. ولسة جوه القلب أمل"، فيضحكون، فننهرهم، نقول: نضحك في الصور، أجل، لكن "أصل الحكاية ماتضحّكش".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد