يأتي المجال العام في المدن الكبرى على النساء بتهديدات لا تقننها في الغالب أطر قانونية فعالة.
منذ سنوات قليلة قُتلت فتاة جامعية في إحدى وسائل النقل الأهلية في إسطنبول، اعتدى عليها السائق وشركاء الجريمة أولاً، ثم قتلوها وحُرقت جثتها في جانب طريق عام… وبعد تحريات طويلة ومعقَّدة وصلت قوات الأمن لهوية الجناة.
الزوجه جان أصلان لم تكن حادثتها هي الوحيدة، وبعد أن انتفض الرأي العام التركي للحادثة لم يمنع هذا من وقوع عشرات ومئات حالات التحرش في العام التالي.
ففي 2016 فقط، تعرَّضت 260 سيدة للقتل، و75 للاغتصاب، و120 سيدة للتحرش، و417 سيدة للاستغلال الجنسي، و329 سيدة للعنف الجنساني.
هذه الأرقام على حجمها لا تمثل إلا قلة ضئيلة من حجم الوقائع الفعلية، فحالات التحرش التي تصل للمحاكم وأقسام الشرطة لا تتجاوز في أحسن الأحوال 3 إلى 5% من الواقع.
ولا تحتاج النساء لدراسات معقدة ليصفن حجم انتشار التحرش في المجال العام، فإسطنبول تُصنف رقم 10 دولياً ضمن المدن الأشد خطورة على المرأة، وتشير دراسة أجرتها جامعة Hacitepe في 2014، إلى أن 41% من النساء في تركيا قد تعرَّضن لأحد أوجه العنف الجنسي، مرة على الأقل في حياتهن.
كثير من الصديقات والزميلات يحكين وقائع الاعتداء في الطرق وسيارات النقل العام، رد الفعل يكاد يكون واحداً؛ الصمت، حيث تتوه الكلمات كلها فجأة، والخوف من تعقب المعتدي لها إذا صاحت أو قاومت، ما يعني وقوع الأسوأ من اللمس أو الاحتكاك المتعمّد.
وإذا كان من الصعب حصر أشكال التحرش في العموم، فهناك إحصاء لمنصة Hollback! يشير إلى أن 70 من النساء اللاتي يتعرضن للتحرش في إسطنبول يتكرر الأمر معهن مرة على الأقل كل شهر.
ويأتي "التحديق" على رأس أشكال التحرش (70%)، "إطلاق تنبيه السيارة" (60%) الصفير لهن (59%)، إصدار أصوات تقبيل لهن (48%)، اللمس والاعتداء المباشر (46%) ويتكرر الشكل الأخير، خصوصاً في وسائل المواصلات العامة، في ساعات الذهاب والعودة من العمل.
لا تستثني وقائع التحرش الأجانب، أما لو كانت المرأة أجنبية (عربية أو سورية تحديداً) فالأمر قد يصل لعروض "العلاقات" الخاصة، والأنشطة غير القانونية. إحدى الصديقات من السعودية متزوجة، وتسكن في إسطنبول، تحكي أن سائق التاكسي عرض عليها الزواج ليحصل على فيزا للعمرة، ثم يطلقها، ولم تُفلح محاولاتها في إفهامه أنها متزوجة.
وتحكي كثير من الفتيات من مصر وسوريا عروض الزواج الثاني والثالث، والعمل في أنشطة غير مشروعة، عروض تلقي لهن في الطرقات، وأماكن العمل، ووسائل النقل طوال الوقت… يصاحبها شعور الاشمئزاز من تصور المجتمع لهن كمادة يسهل ويمكن الاعتداء عليها والاستفراد بها، وتثير الخوف والتوتر، خاصة إذا صاحبها تحويل سائق التاكسي أو المينيبوس على السواء لخطوط السير المألوفة، وتطرق لمناطق فرعية يصعب ملاحقته فيها، أو لا تعرفها "الضحية".
لكن التحرش الأكثر انتشاراً على الإطلاق هو محاصرة الأجنبيات في وسائل النقل بعشرات الأسئلة عن حياتهن الخاصة، بشكل يكاد يصل لحد الاضطراد، فبالكاد أذكر مرة استقللت فيها عربة "تاكسي" دون أن يسألني السائق "من أين جئتِ" لتبدأ سلسلة طويلة من الأسئلة، ويكون الصمت إزاءها والكلام خيارين كلاهما أسوأ من نظيره.
ولا تستثني سلوكيات التحرش كبار السن، فبجانب العديد من الوقائع التي تستهدف المسنات حتي لو التزمن الحجاب الشرعي، فإن كثيراً من باحثي الاجتماع وعلم النفس يؤكدون أن التحرش ليس ظاهرة جنسية، بل هو عدوان يتعلق بشعور الطرف المعتدي بالقوة، وتصوره للفوقية من ناحية، وضعف الضحية وصمتها من ناحية أخرى، ولأن أشكال الاعتداء لحظية ويصعب توثيقها بأدلة مادية في الحال، تبقى الغالبية الساحقة من حالات الاعتداء خارج نطاق المحاكم وأدوات التعقب القانوني.
فمن المستحيل مثلاً أن تسير كل الفتيات بكاميرات مفتوحة وأجهزة تسجيل في حقائبهن، مفتوحة لرصد التحرش كل صباح.
ورغم أن تركيا من الدول الموقعة على العديد من الاتفاقيات الدولية، منها اتفاقية محو كل أشكال التمييز ضد المرأة (1979)، وكانت أول الموقعين على اتفاقية المجلس الأوروبي لمنع ومحاربة العنف ضد المراة والعنف الأهلي، فإن القوانين المطبقة لا تسمح للنساء بتسجيل شكاوي التحرش بهن بمحض الإفادة في أقسام الشرطة، بل يتعين على الضحية أن تأتي بأدلة مادية يصعب في الغالب تحصيلها من دون تحريات الأمن، ولأن أقسام الشرطة لا تتعاون في هذا المجال، بل تشتكي كثير من الضحايا من دروس "آداب ارتداء الملابس" التي يلقيها أفراد الشرطة، فإن كثيراً من الجرائم تقع في مساحات "آمنة" من الملاحقة القضائية.
كذلك تعزز بعض القوانين المطبقة التمييز ضد المرأة (الأم العاملة)، مثل قوانين وسائل النقل الأهلية التي تصدرها إدارات المحافظات لصالح العاملين في مجال النقل. أوضح مثال هو منع الأمهات من اصطحاب الأطفال الرضع بعرباتهم في النقل الأهلي "المينيبوس"، وهي الوسيلة الأكثر شيوعاً داخل الأحياء، والتي تربط بينها وبين طرق المترو والطرق السريعة (المتروبوس).
في هذه الحالة، تضطر الأمهات لانتظار أتوبيسات النقل العامة (IETT)، أو المشي لمسافات طويلة بأطفالهن للوصول لأقرب محطة عامة، ما يعني أنها تكون مادة للاعتداء لفترة أطول، حيث لا تتوفر وسائل آمنة للانتقال داخل الأحياء الأهلية.
ويبقى على الإدارات المحلية ومؤسسات الحكم إصلاح الأطر القانونية لسحب مجال التحرش إلى ساحات التقاضي، ورفع الوعي العام، وتوجيهه بشأن أشكال الاعتداء وأدوات المقاومة وتوثيق الوقائع، والتوعية بأشكال المعالجة المسيئة، التي يأتي على رأسها "الصمت" والتجاهل، و "لوم الضحية"، وتلخيص الإشكال في "ثيابها"، فالاعتداء لا يقتصر على "النساء"، بل يمتد للأطفال والمعاقين وكبار السن، وكل "َضعيفٍ" يضمن الجاني خوفَه وصمت المحيطين وتعامي القانون عنه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.