أين تخفي البنوك مليارات الأغنياء؟

عربي بوست
تم النشر: 2019/10/23 الساعة 10:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/10/23 الساعة 15:22 بتوقيت غرينتش
dollars

أميل للبسطاء، وأدعم الحق والمظلومين. ولأنني مدرك أن الاقتصاد هو حياة الناس، أعمل منذ سنوات على "أنسنة" الاقتصاد وتفريغه من حالة الجفاف التقليدية. أعتبر أن مهنة الصحافة أعظم مهنة على الأرض…

وأنا أخطو خطوات بطيئة أحياناً ومترددة، متهورة أحيانا وواثقة، نحو عالم البنوك الغامض الذي تم تكليفي بالتخصص به، لأؤسس لاحقا أول صحيفة أسبوعية في المنطقة العربية عن البنوك ومعها أسست مدرسة الصحافة المصرفية في مصر، كان السؤال الكبير الذي يطرح نفسه علي: أين تخفي البنوك أموالها وملياراتها وذهبها وفضتها وأسهمها وسنداتها؟

ومن هذا السؤال تفرعت أسئلة فرعية من أبرزها: ماذا تفعل البنوك بمليارات الجنيهات التي تتلقاها يوميا من المودعين؟ وكيف تنقل البنوك أموالها الضخمة من فروعها في أسوان والإسكندرية ومحافظات مصر إلى مقارها الرئيسية في القاهرة، ثم تعيدها مرة أخرى إلى فروعها في الأقاليم النائية؟ وما هي وظيفة البنوك أصلا، ماذا تفعل، وما علاقتها بالاقتصاد؟

كنت في البداية أطرح على نفسي أسئلة ساذجة وسطحية، لكنها بالغة الأهمية بالنسبة لي، ماذا يدور داخل البنوك، ومالي أنا ومال هذا العالم الغامض الذي يتسم بالسرية الشديدة والقيود، فأنا لم أدرس علم النقود والبنوك والمالية العامة وإدارة الأموال والاستثمار في الجامعة، بل درست مادة الاقتصاد على عجل في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، واعترف بأنني كنت أكره هذه المادة "الرخمة" الثقيلة على نفسي وقلبي، رغم أن عالمين كبيرين هما من قاما بتدريسها لي وهما د. أحمد الصفتي ود. حسن عبيد الأستاذان في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.

وأعترف بأنني لم أدخل بنكاً في حياتي، حتى اليوم الذي استلمت فيه أول راتب عقب عملي في الصحافة وكان عبارة عن شيك مصرفي مستحق على أحد البنوك الحكومية، كل ما أعرفه وقتها كان عبارة عن معلومات تاريخية بسيطة وربما تنحصر في دراسة تجربة تأسيس طلعت باشا حرب أول بنك مملوك للمصريين بنسبة 100% وهو بنك مصر الذي تأسس في منتصف شهر إبريل 1920، ثم تأسيس البنك لعشرات الشركات التابعة والعاملة في مجالات وأنشطة عدة، منها النقل والطيران والغزل والنسيج والتأمين وصناعة السينما، كنت معجباً بتجربة طلعت حرب، ذلك الاقتصادي الوطني الذي كسر احتكار الأجانب والإنكليز للصناعة المصرفية وأنشأ عشرات الشركات الوطنية التي نهضت بالاقتصاد في وقت لاحق.

وسط كل هذا التردد والأسئلة، كان هناك سؤال كبير آخر يطرح نفسه علي، وهو: لماذا يتعامل ملايين المصريين مع البنوك، رغم أن بعض المشايخ وعلماء الدين يصرخون فينا ليل نهار بأنها حرام، وأن الاقتراض من البنوك والتعامل معها حرام شرعا وربا محرم؟

طبعا، اكتشفت بعد ذلك أن معظم المشايخ الذين يتكلمون عن البنوك لا يعرفون شيئا عنها أو عن أنشطتها أو كيفية إدارة أموالها، ولا يعرفون دور البنوك الحيوي في حماية أموال المودعين، خاصة صغارهم، من النصب والتآكل والتضخم، وأنه إذا كانت القروض تمثل جزءاً من أنشطة البنوك فهو الجزء الأصغر.

فهناك عشرات الأنشطة الأخرى التي تمارسها البنوك ومنها تمويل عمليات التجارة الخارجية، استيراداً وتصديراً، وتمويل واردات البلاد من القمح والأغذية والسكر وغيرها، وتأسيس صناديق الاستثمار التي تدير أموال صغار المستثمرين، وتمويل الأنشطة الصناعية والزراعية للدولة، وأنه إذا ما أراد عالم دين أن يصدر فتوى صحيحة في أمور المصارف والتعاملات المالية، فلا بد أن يتعرف على أنشطة البنوك وكيفية إدارة أموالها أولاً حتى يكون حكمه وفتواه عن علم ومعرفة، خاصة أن البنوك صناعة حديثة، وأن الربا بمعناه القديم ربما يختلف عن أسعار الفائدة أو العوائد التي تمنحها البنوك لعملائها.

المهم، قررت اقتحام التجربة والدخول إلى عالم البنوك الغامض، ذهبت إلى منطقة البنوك الواقعة في قلب القاهرة، والتي تحيط بالبنك المركزي المصري الواقع في شارع قصر النيل، اقتربت من باب أحد البنوك، فإذا بعشرات الناس الشيك يتدفقون على مقر "مبنى ايفرجرين" الضخم الواقع منتصف شارع طلعت حرب ويضم العديد من البنوك والشركات الكبرى.

نظرت حولي، فإذا بأناس يرتدون بدلاً سوداء أو كحلية اللون وفي قمة الأناقة، خمنت أنهم موظفو البنك، قدماي تخطو ببطء نحو باب البنك الذي يقف عليه موظف أمن يرتدي أيضا ملابس أنيقة ويوجه الناس بكلتا يديه بحماس شديد وصوت عال.

اقتربت أكثر، فإذا بعنصر الأمن يسأل من أمامي، سحب، إيداع، تسهيلات ائتمانية، نقد أجنبي، اعتمادات مستندية، خطابات ضمان، خزن حديدية، أسهم وأوراق مالية، تحويلات، تغيير عملات، دعاوى قضائية، شؤون قانونية، فإذا بعملاء البنك ينطقون النصف الأول من الكلمة، وبعدها يوجههم، دور أرضي يمين، دور أرضي يسار، الدور الأول، الدور الرابع، البدروم، الدور الأخير، الأستاذ فلان بالدور الخامس، ويكمل مهمته بقوله " الأسانسير على يمينك".

جاء علي الدور فسألني، لم أنطق بكلمة واحدة، بعدها استجمعت قواي وقلت له "أنا صحافي"، فقال: "ماذا تريد"؟ قلت بسرعة "رئيس البنك"، فقال "مرة واحدة"، وواصل "هل هناك موعد"، قلت "لا"، فقال "نعتذر يا أفندم.. وسع للذي يليك".

في المرة الثانية تنبهت للأمر، ذهبت لبنك آخر، وعندما سألني حارس الأمن، اخترت كلمة من الكلمات التي يرددها على مسامع كل العملاء، أظن إيداع، فسمح لي بالدخول.

في صالة البنك تجد كل صغار المتعاملين، مودعين ومدخرين ومقترضين ومستفيدين من حوالات قادمة من ذويهم في الخارج، خاصة من العراق وليبيا ودول الخليج، أما المليونيرات وأصحاب الياقات البيضاء فلهم مكاتب مكيفة ومعاملة خاصة وسلم خاص ويستقبلهم مدير البنك من الباب، وربما من أمام السيارة الفارهة التي تقلّهم.

ظللت أياما وشهورا طويلة أجلس في صالات البنوك أراقب، لا أفعل شيئا سوى مشاهدة المنظر من على بعد، الاستماع لكلمات وحوارات الموظفين مع العملاء، الشكاوى من تأخر التحويلات القادمة من الخارج، آخر سعر للفائدة على الودائع، وهل سيرفع البنك السعر ومتى؟ عائد القروض والتسهيلات الائتمانية، قيمة عمولات الاعتمادات المخصصة لأنشطة الاستيراد، أي الأسهم التي سيطرحها البنك قريبا للاكتتاب العام، آخر أخبار البورصة، متى يتم إجراء توزيعات الأسهم، هل هناك قروض لشراء شقة أو سيارة، هل هناك قروض للموظفين من خارج البنك.

وعندما لا أفهم أي مصطلح مصرفي أميل إلى من يجلس بجانبي فيشرح لي محاضرة كاملة عن المصطلح الذي أفهمه بكل تفاصيله وبشكل عملي، حتى إذا ما جاء دوره في الحصول على خدمته انتفض واقفا وتركني بعد استئذان لطيف.

في صالات البنوك كنت تحصل على أحدث الأخبار الطازجة، قرارات رؤساء البنوك وتعليمات البنك المركزي وإدارة البورصة وهيئة سوق المال، وأحيانا تعرف آخر أخبار السياسة والمجتمع وربما الفنانات، كان يتم الإعلان عن كل شيء في الصالات، أو يتم تعليق القرارات الرسمية على حوائط البنك، وأحيانا ما يخص موظف أحد العملاء المقربين بهذه الأخبار الطازجة، كنت أحصل على مانشيتات وانفرادات صحافية وأخبار من داخل تلك الصالات المكيفة.

تعودت على صالات البنوك، فهي بمثابة جامعة مفتوحة، مدرسة متكاملة، معهد مصرفي متخصص، كنت أدخل البنك صباحا وأخرج مع آخر عميل يحصل على خدمته، ومن داخل الصالات عرفت قدماي مكاتب الموظفين الذين شعروا أنني شغوف بالتعلم من دون أن أكشف أسرارا قد تضر بالبنك أو بسرية حسابات المتعاملين معه، فجأة وجدت نفسي داخل مكاتب الموظفين ومنها لمديري ورؤساء البنوك، وفي المكاتب الأخيرة تعرف مصر على طبيعتها، من يحصل على أموال البنوك ويسدد ما عليه، ومن يحصل على أموال البنوك والمودعين بغرض النهب والسرقة وتهريب الأموال للخارج، من أبرز رجال الأعمال المنتظمين في السداد ومن أبرز المتعثرين، ما قصة الصعود الصاروخي لبعض رجل الأعمال وعلاقة ذلك بأموال البنوك، وما سر تهاوي رجل أعمال آخر وعلاقة ذلك بأموال البنوك أيضا.

داخل مكاتب مديري البنوك الفارهة تعرف كل شيء، بما في ذلك الإجابة عن السؤال الساذج.. أين تخفي البنوك أموالها؟

صحيح: ما الإجابة عن هذا السؤال الذي وعدت بالإجابة عنه في وقت سابق.. سأجيب في المقال القادم.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مصطفى عبد السلام
كاتب متخصص في الشأن الاقتصادي