عندما ذهب الكاتب أحمد بهاء الدين ليتحدث غاضباً مع وزير الداخلية ممدوح سالم، ويلومه على مستوى المخبرين الذين يُجنّدونهم من المُشتغلين بمهنة الصحافة والإعلام، قائلاً له أنه يعرف نوعية الصحفيين الذين يَكتبون تلك التقارير، وأنهم أسوأ وأحط أنواع الصحفيين، وهم من الفشلة الذين تَملأ قلوبهم الضغينة تجاه كل إعلامي وإنسان ناجح. وسأل أحمد بهاء الدين الوزير قائلاً "بالله عليكم لماذا لا تتخيرون مخبرين من عينة أذكى وأرقى؟". أجاب الوزير إجابة عبقرية في رأيي وقال له "هل تعتقد أننا قادرون على أن نجد صحفياً ذكياً أميناً وناجحاً وابن ناس يَقبل أن يكتب تقارير عن الآخرين مُقابل أجر؟! هات لي عشرة من دول ولو كانوا من خريجي أوكسفورد يَرضون أن يكتبوا تقارير وسوف تستغنى المباحث فوراً عن النوعية التي تكتب التقارير الآن!!". أصبح هذا نوعاً معروفاً جداً من الأشخاص الذين يُصفّون حساباتهم مع الآخرين بكل صفاقة وابتذال، دون أن يشغل بالهم إطلاقاً مبدأ شرف الخصومة.
نوع آخر وهم الأغبياء منهم يعتقدون أن الغاية تُبرر الوسيلة، يتجلى ذلك وبوضوح في حوار الفيلم العبقري كشف المستور الذي كتبه وحيد حامد وأخرجه عاطف الطيب للسينما المصرية وكانت تقوم فيه "نبيلة عبيد" بدور شخصية اسمها سلوى تقوم بخدمة المخابرات العامة عن طريق اصطيادها لبعض الشخصيات السياسية الهامة والدبلوماسية لتَذهب بهم إلى غرف النوم للتسجيل لهم والوصول لأكبر كم من المعلومات من خلال هذه العلاقات غير المشروعة وبعدها ابتزازهم. تعتزل سلوى وتتزوج، ولكن وكما يقول المثل "تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن" فبعد مرور عشرين عاماً تُفاجأ سلوى باستدعاء من رئيس الجهاز لمهمة جديدة مع أحد الدبلوماسيين العرب والذي كانت عرفته على الفراش منذ عشرين عاماً، وترفض سلوى وتعتذر فيهددها رئيس المخابرات الجديد بشريط فيديو قديم لها، وتقرر سلوى البحث عن المسؤول السابق في المخابرات والذي كان موكلاً له من قبل إدارة هذه النوعية من العمليات ويدور هذا الحوار بينهما:
– مسؤول المخابرات: مكنتش بغشك ولا بخدعك، أنا كنت مؤمن إن كل حاجة بنعملها كانت في سبيل الوطن، كانوا بيسموني جنرال السراير، مكنتش بزعل، جنرال، زيها زي المدفعية وزي المدرعات، ده كان اعتقادي الراسخ وقتها، لا أنا كنت قواد رخيص ولا إنتوا كنتوا بنات ليل، كلنا كنا فاكرين إننا بنخدم الوطن، حتى اللي عذّبوا الناس في السجون كانوا فاكرين إنهم بيخدموا الوطن، في ناس كتير ماتت في مغامرات هايفة، وأكيد ماتوا وهما فاكرين إنهم بيخدموا الوطن، دايماً أعظم لحظة في الوجود هي لحظة اكتشاف الحقيقة، اللحظة اللي أنا بتمناها لناس كتير، هي لحظة ما يكتشف إنه حمار
= سلوى: ممكن أعرف سيادتك حمار ليه؟
– مسؤول المخابرات: لأن الحمار بس هو اللي يصدق إن الوطن ممكن يستفيد من العمليات القذرة
= سلوى: يعني كل الكفاح اللي كافحناه على السراير مجبش أي نتيجة
في كتابه "قواعد السطوة" أوضح روبرت غرين أن نوعاً من الذكاء هو أن تستخدم صراعك مع أعدائك لعرض مبادئك وأهدافك على الجمهور الذي تستهدفه. فقط الحمار هو من يُصدق أن المحاربة من أجل الوطن تكون عبر الأسِرَّة والعمليات القذرة، أو قد تكون عبر تلويث شرف الخصوم وابتزازهم، أي وطن هذا تتحدثون عنه، الأوطان لا تدار عبر الخوض في شرف الآخرين. لا تكمن المشكلة في الأشخاص الذي يجرمون في حق بلدانهم وهم على دراية كاملة بما تفعل، إنما المشكلة الأكبر في أولئك الذين يفعلون ذلك وهم على قناعة واعتقاد شخصي بأنهم يخدمونها، إنهم يا عزيزي الأغبياء منهم.
أما النوع الثالث فهو النوع الذي وصفه العبقري أحمد خالد توفيق قائلاً "إن مشكلة مصر هي مشكلة تباهي المخبرين بأنهم كذلك، ومشكلة أخرى أنه من الصعب أن تجد مُخبراً ذكياً أميناً ولا يتفاخر بأنه مُخبر"، إنه الفجور في الإعلان وفي الخصومة، أن يتحول الشرف لكلمة يَتشدقُ بها الآخرون فقط، ويحضرني هنا الأفيه الشهير للفنان القدير "توفيق الدقن" الجملة التي خرجت من شخصية عبده دنس السكير في فيلم "بحبك يا حسن"، "أحلى من الشرف مفيش يا آه يا آه". حين يُصبح الشرف كلمة يَتشدقُ بها اللصوص والأوغاد، فيجب حينها أن نتّوقف قليلاً مع أنفسنا ونُعيد تعريف الأشياء.
علينا أن نؤمن دائماً بشرف الخصومة الفكرية، أو كما يقول روزفلت "الشرف أفضل من الربح". هذه ستظل دائماً قناعة الراغبين بخوض معاركهم بشرف احتراماً لمبادئهم وأخلاقياتهم أياً كانت المُغريات أو التهديدات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.