أبها، غرب السعودية 2004:
طفل لم أتجاوز العاشرة عندما سمعت أبي للمرة الأولى يتحدث عن صلاح الدين حين قال: "في نهاية الحياة سيكون عليك أن تختار بين: يرقد اليوم في هذا القبر الرجل العادي، أو يحيا في هذا القبر صلاح الدين" ليتركني في حيرة التساؤل الذي دام طويلاً: كيف سيتكرر صلاح الدين؟
ألورستار، جنوب ماليزيا 2017:
عندما عدت من ماليزيا أواخر عام 2017، انهالت علي الأسئلة من كل حدب وصوب. يسألني الشباب كيف ذهبت إلى هناك؟ كيف سافرت في هذه المنحة؟ ما هي الطريقة التي نتبعها؟ ما الخطوات التي نسلكها حتى نُقبل في هذه المنحة كما فعلت أنت تحديداً؟
تطورت الأسئلة واتخذت منحنى تصاعدياً فتلقيت العديد يريد أن يلم بكل ما يخص المنح، كيف أكون على دراية بكل الفرص المتاحة؟ ما هي المهارات التي يجب أن أطور فيها ذاتي وشخصيتي حتى أكون مؤهلاً لكل المنح التي تصادفني؟
في كل مرة كنت أجيب كل مرة بقدر ما في جعبتي ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أفصل وأشرح وأحلل وأرمي كل سهامي عساني أصيب نظرة الرضا في عيون المستمع، أو أصل إلى النقطة التي يشعر فيها أنه قادر على تكرار التجربة واستنساخ القصة من جديد، لم تصب سهامي نظرة الرضا ولم تكن القصص قادرة على استنساخ ذاتها، فشلت كما فشل من قبلي في تقديم إجابات وافية شافية، أخفقت كما أخفق السابقون وسيخفق اللاحقون في رسم كتالوج يمشي عليه القاصدون خطوة بخطوة.
في هذا الموج المتلاطم من حيرة المتسائلين، وعجز المسؤولين، حضرت مؤتمراً جمع متحدثين من كافة المجالات يحكون قصص نجاحهم، ويتحدثون عن مسيرة حياتهم حتى وصلوا لما وصلوا إليه، اختلفت قصصهم واتفقت مشاعري تجاهها بالإحباط أو الغبطة والانجذاب لهذه القصص وكل مرة أهمس لنفسي:
" لا تقلق، الأمر بسيط سنعرف ماذا فعل هذا الناجح، ما الخطوات التي سلكها، ثم نفعل مثلما فعل، وبالتالي سننجح مثلما نجح".
يصعد على المسرح متحدث جديد فأهمس لنفسي من جديد، وثالث ورابع… واستمرت الساقية لا تتوقف، حتى أوقفت أحدهم وقلت له: "أفتنا فقد تشابه الأمر علينا، سألوني الناس عن كتالوج يسافرون به في المنح، وأسألك أنا عن كتالوج للنجاح في العمل الحر مثلك، عن الخطوات التي أتبعها حتى أصبح أنت من جديد".
وهنا قال لي:
" لا يوجد كتالوج! وأنت لن تصبح أنا أبداً! ولن تجد مني ما يجيب على هكذا تساؤلات!"
سادت لحظة من الصمت المتحفز ثم أكمل هو قائلاً:
"كل ما أستطيع أن أمنحك إياه نصائح عامة، أن أدلك على بدايات الطرق، أن أوجهك لنقاط الانطلاق، لكن الله سبحانه وتعالى خلق فينا الاختلاف، ووضع في كل منا ما يخصه دون غيره.
يا ولدي: نحن بشر تؤثر فينا المشاعر وتوجهنا العائلة ويغير دفتنا الأصدقاء ويمسنا الطقس بالبرد والحر ولذلك لكل منا طريقه الخاص.
فقط ابدأ واسع، وستجدك ترسم خطواتك الخاصة، وتكتب بنفسك قصتك الجديدة، وتضع للتاريخ والأجيال تجربة نجاح تنفرد عن كل التجارب التي سبقوها، ستتعرف على كل طريق درجة درجة ومرحلة مرحلة بمجرد أن تضع طريقك فيه، جرب أن تبدأ على سبيل المثال دراسة ريادة الأعمال، ستجد نفسك تصادق أشخاصاً يدرسون ريادة الأعمال، ستدخل المكتبة وتقع عينك أول ما تقع على كتب لريادة الأعمال، ستصبح مواقع تدريس ريادة الأعمال هي الصفحات الأولى في متصفحك، ستدعى إلى مؤتمرات تجمع رواد الأعمال.
إن أكبر النعم التي منحها الله للإنسان هي العقلية التجريبية البنائية التي تعلم نفسها بنفسها، وتبني على أخطائها فتكتشف الجديد وتطور القديم، وتنطلق إلى خطوة أخرى، كل تجربة يمر بها الإنسان تضفي عليه فيكبر ثم يمر بتجربة أخرى فيكبر حتى يكون قصته الخاصة.
يا ولدي: لا تسع لتكرار الآخرين، واستنساخ السابقين، لن يتكرر صلاح الدين، ولن تستطيع استنساخ محمد الفاتح في البيت، ولن تقدر على إعادة إنتاج ستيف جوبز من جديد في غرفتك، كما أن لكل منا بصمة يد تختلف عن بصمات الآخرين، كذلك قصصنا وحياتنا وطموحاتنا وأحلامنا تختلف وقصصنا تختلف، فاصنع أنت قصتك!".
أكد النبي صلى الله عليه وسلم على اختلاف قدرات الناس، وتفاوت مواهبهم، وتمايز مهاراتهم حين قال: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة" كل منهم له تميزه وله قصته وله نجاحه الخاص.
لا أؤمن بقوانين كقوانين الجذب، لكن حين تبدأ طريقك ستخضع الظروف لرغبتك وستنتحني العقبات لك لتسير في هذا الطريق الذي ستكتشفه بنفسك، "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى".
القاهرة، 2019:
أدركت أن صلاح الدين لن يتكرر، وفي نهاية الحياة سيكون عليّ أن يقال: يحيا تحت هذه الأرض فلان الفلاني الذي صنع قصته الخاصة، فتجارب النجاح لا تستنسخ، ومسيرات الطموح لا تتكرر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.