أتذكر أنني استيقظتُ صباح يوم من أواخر أيام مارس/آذار من العام الماضي 2018 على نبأ انتخاب الائتلاف الحاكم في إثيوبيا "الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية"، للشاب المنحدر من قومية أوروميا كبرى القوميات الإثيوبية "آبي أحمد علي" ليكون رئيساً للائتلاف مما يعني تلقائياً أنه سيكون رئيس الحكومة الجديد بعد استقالة رئيس الوزراء السابق هايلي مريام ديسالين.
قلت في نفسي إنها فرصة جيّدة للتعرف على كيفية تفاعل الشعب الإثيوبي مع تغيير رئيس الحكومة، وهل سيستحوذ على اهتمامات مجالس المدينة والسواد الأعظم من أبناء الشعب كما يحدث لدينا في السودان أم أن الحال يختلف في جارتنا الشرقية؟
خرجت في الثانية عشرة بعد الظهر إلى كافيه يولي الذي أُفضّل فيه تناول القهوة الإثيوبية التقليدية، ففيه شاشة تلفزيون عملاقة، وما يُبث عبرها من أخبار وتقارير حول الشأن الداخلي يكون محط اهتمام رواد المقهى من فئتي الشباب وكبار السن.
وجدت بالفعل ترحيباً مشوباً ببعض الحذر من رواد المقهى، فقد كان لديهم تخوُّف من احتمالية اندلاع أحداث عنف عرقي في البلد الذي يضم أكثر من 80 مجموعة إثنية على وقع الاحتجاجات التي كان يشهدها إقليما أوروميا وأمهرا، والتي دعت رئيس الوزراء السابق للاستقالة في بادرة نادرة الحدوث بقارتنا السمراء!
بعد تناول القهوة استقللت المواصلات العامة إلى ساحة بياسا التاريخية، فكان الموضوع مسيطراً كذلك على نقاشات الركاب، عرفت ذلك رغم عدم إجادتي التامة للغة الأمهرية الرسمية هناك، وكذلك استحوذ الحدث على رواد الساحة التي تمثل قلب أديس أبابا النابض، فقد كان معظم الناس متفائلين بمقدَم الشاب الذي كان يبلغ من العمر نحو 41 عاماً.
ولعلّ آبي أحمد في ذلك اليوم الذي تم انتخابه فيه رئيساً للائتلاف الحاكم لم يكن يتوقع أن يتوّج بجائزة نوبل للسلام بعد عام ونصف من توليه رئاسة الحكومة، ليُكتب اسمه ضمن القادة العالميين الذين نالوا الجائزة الرفيعة كالرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، والناشطة في مجال التعليم مالالا يوسف زاي، ومن إفريقيا حاز عليها قلّة من الزعماء مثل نيلسون مانديلا وأنور السادات.
لم يكن فوز آبي أحمد بجائزة نوبل للسلام أمراً مستغرباً فيه، فالعديد من المراقبين توقعوا أن ينالها عندما نجح في تحقيق تعهداته أمام البرلمان بإحلال السلام مع الجارة إريتريا التي استمرّ النزاع معها لعقدين من الزمان، وفي خطاب التنصيب تحدث آبي أحمد بلهجة تصالحية عن أحزاب المعارضة التي كان بعضها مصنفاً ضمن التنظيمات الإرهابية.
فمن هو آبي أحمد وما الذي فعله في إثيوبيا لينال هذا التكريم؟
وُلد آبي أحمد وهو مسيحي بروتستانتي، وليس مسلماً كما يعتقد الكثيرون، في 15 أغسطس/آب عام 1976، ببلدة صغيرة في إقليم أوروميا تسمى "بيشاشا"، بمنطقة أغارو، قرب مدينة جيما لأب مسلم وأم مسيحية، وتلقى تعليمه الأولي في منطقته، ثم جاء إلى العاصمة أديس أبابا التي تلقى بها التعليم الجامعي حيث حاز على درجة البكالوريوس في هندسة الكمبيوتر من كلية "ميكرولينك لتكنولوجيا المعلومات".
وحصل آبي أحمد على عدد من الدرجات العلمية، هي شهادة الماجستير في القيادة التحولية، ودرجة ماجستير أخرى في إدارة الأعمال، ودرجة الدكتوراه من معهد دراسات الأمن والسلام في جامعة أديس أبابا.
على النقيض مما أحدثه من تحوُّل بعد انتخابه رئيساً للوزراء، كانت بدايات عمله السياسي مختلفة للغاية، إذ التحق في صباه عام 1990 بالنضال المسلح مع رفاق دربه في "الجبهة الديمقراطية لشعب الأورومو" التي هي أحد مكونات الائتلاف الرباعي المناضل ضد الحكم العسكري لنظام الرئيس الديكتاتوري "منقستو هايلا ماريام" حتى سقط حكم الأخير عام 1991 وهو العام الذي التحق فيه آبي أحمد بالخدمة العسكرية، وتدرّج بها حتى وصل إلى رتبة عقيد ثم تقاعد عام 2010. وتتمثل أبرز محطات آبي أحمد في الخدمة العسكرية أنه قاد إبان الحرب الإثيوبية – الإريترية (1998ــ2000) فريقاً استخباراتياً لاستكشاف مواقع الجيش الإريتري في الجبهات الأمامية للقتال.
سياسياً، كان آبي أحمد أحد الكوادر النشطة في الحزب الديمقراطي الأورومي، المشارك في ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية "EPRDF" والائتلاف يتكون من 3 أحزاب إلى جانب حزب الأورومو هي: جبهة تحرير شعب تجراي، والحركة الديمقراطية لقومية أمهرا، والحركة الديمقراطية لشعوب جنوب إثيوبيا، تدرّج آبي أحمد في حزب الأورومو إلى أن أصبح عضواً في اللجنة التنفيذية للائتلاف الحاكم في الفترة ما بين 2010 إلى 2012.
قبل الصعود لمنصب رئيس الوزراء، كانت أدوار آبي أحمد داخل دوائر السلطة جيدة، وحضوره داخل الأوساط السياسية يزداد تألقاً.. عزز هذا الحضور الجهود التي قادها من داخل الائتلاف الحاكم، فنجح في إقناع رئيس الوزراء السابق هايلي مريام ديسالين بإيقاف خطة توسعة العاصمة التي كانت أحد أهم الأسباب التي أدت إلى احتجاجات أبناء قومية الأورمو الذين كانوا يعتقدون أن مشروع التوسعة يستهدف التغول على أراضيهم.
بعد انتخابه رئيساً للحكومة بدأ الشاب الأربعيني فترة حكمه بتصميم خطة جديدة كان العامل الأساسي لها هو أن تكون الديمقراطية هي الضامن الأساسي لمفهوم التنمية باعتبارها مفتاح السلم الاجتماعي، حيث أصدر قرارات بالعفو عن المعارضين السياسيين في خطوةٍ عززت ما بدأه رئيس الوزراء السابق هايلي مريام ديسالين والذي نعتقد أن الإعلام ظلمه كثيراً فقد عمل بصمت شديد وحققت إثيوبيا في عهده إنجازات مشهودة مثل افتتاح محطة مترو أديس أبابا وقطار البضائع والركاب الذي يربط بين إثيوبيا وجيبوتي، إلى جانب سفلتة آلاف الكيلومترات من الطرق وغيرها من المشروعات الضخمة ضمن ثورة التغيير والتطور التي قادها مؤسس النهضة الإثيوبية رئيس الوزراء الراحل مليس زناوي الذي أطلق مشروع سد النهضة الكبير ولم يمهله القدر حتى إكماله.
بالعودة إلى آبي أحمد، نجد أنه نجح في إنجاز مصالحة وطنية كبيرة، كما فتح قناة اتصال مع المعارضة المنفية في الخارج، تكلّل برفع ثلاث جماعات معارضة من على قوائم الإرهاب، فضلاً عن التخفيف من القبضة الحديدية التي كانت تحكُم بلاده عبر إحالة خمسة من كبار المسئولين للتقاعد، بينهم رئيس الاستخبارات، وقيادات في الجيش وإصدار قرار بالعفو عن 757 من السجناء السياسيين المُدرجين على قوائم الإرهاب من جانب الحكومة السابقة، بجانب رفع الحظر عن قنوات المعارضة التلفزيونية، ورفع حالة الطوارئ.
اتفاق سلام مع إريتريا ومصالحات مع دول الجوار
نعتقد أن اتفاق السلام والمصالحة مع إريتريا الجارة الشمالية لإثيوبيا لعب الدور الأكبر في فوز آبي أحمد بجائزة نوبل للسلام، ففي يونيو/حزيران 2018 أي بعد شهرين من أدائه القسم، أعلن آبي أن إثيوبيا ستلتزم بحكم 2002 الذي يفرض عليها التخلي عن منطقة بادمي المتنازع عليها مع الجارة اللدود قائلاً إن أديس أبابا ستسحب قواتها.
بعد نحو شهر من قراره، غادر رئيس الوزراء الإثيوبي إلى أسمرة، في الـ9 من يوليو/تموز؛ حيث أعلن هو والرئيس الإريتري أسياس أفورقي عن طي صفحة الحرب التي كانت قائمة بين البلدين طيلة 20 عاماً، تسارعت خطى التطبيع ففي الشهر ذاته أعاد أفورقي فتح سفارة إريتريا في أديس أبابا، وبعدها بيومين غادرت طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية الإثيوبية إلى أسمرة مع استئناف الرحلات الجوية التجارية بين البلدين. كما أعادت إثيوبيا فتح سفارتها في العاصمة الإريترية في الـ6 من سبتمبر/أيلول وبعد خمسة أيام تم فتح معبر حدودي بري لأول مرة منذ 20 عاماً.
ويحسب لرئيس الوزراء الإثيوبي قيامه بالتوسط لإجراء مصالحة بين الصومال وإريتريا كللت بالنجاح، وآنذاك ثارت تكهنات عن مساعي دولة الإمارات للهيمنة على دول القرن الإفريقي عبر اتفاقات الصلح والسلام، لكن اتضح لاحقاً أن أبوظبي لا تلك نصيراً لها غير رئيس إريتريا أسياس أفورقي.
أما حكايته مع السودان والسودانيين فهي شأن آخر
أكاد أجزم أن الشعبية التي وجدها الزعيم الإثيوبي آبي أحمد في نفوس السودانيين لم يجدها رئيس آخر اللهم إلا عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السوداني الجديد، وهذا شيء طبيعي؛ لأن حمدوك هو ابن السودان الذي يتفاءل بمقدمه أبناء الوطن، أما بقية القادة السودانيين مثل الفريق أول عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو وغيرهما من قادة المجلس السيادي الانتقالي الحالي فهم أبعد ما يكونون عن الشعبية والجماهيرية، بل على النقيض تماماً حازوا على كراهية السودانيين عقب مجزرة القيادة العامة التي يُعتقد أن المجلس العسكري المحلول متورط فيها حتى النخاع.
شعبية آبي أحمد في السودان تجلّت عندما احتفى به الحضور في حفل توقيع انتقال السلطة بالخرطوم في أغسطس/آب الماضي، ذلك لأن السودانيين يرون أن الفضل يرجع إلى آبي أحمد في حقن دماء الشباب وفي إنجاز الاتفاق الذي أفضى إلى تشكيل الحكومة المدنية.
وفور الإعلان عن فوزه بجائزة نوبل للسلام، عبّر رواد مواقع التواصل الاجتماعي في السودان عن فرحتهم بتتويج آبي أحمد بشكلٍ مبالغٍ فيه، كما لو كانوا مواطنين إثيوبيين أو لكأن الجائزة فاز بها مواطن سوداني.
لماذا آبي أحمد وليس أي قائد إفريقي آخر؟
سؤال ربما يجول في خاطر الكثيرين، كيف منحت جائزة نوبل للسلام لرئيس الوزراء الإثيوبي وليس أي زعيمٍ إفريقي آخر؟
الجواب، أن الرجل نجح في إنجاز اتفاق السلام التاريخي مع أسياس أفورقي رغم أن الأخير شخص ديكتاتوري عنيد صعب المراس، من يعرفونه عن قرب يقولون إنه ليس لديه قابلية للحوار والنقاش، لا يريد سوى قبول حديثه كأمر واقع لا يجوز الأخذ والرد معه، ولعل هذا هو السبب في فتور العلاقات بينه وبين الزعيم الإثيوبي آبي أحمد في الآونة الأخيرة فقد ظلّ الغائب الوحيد عن كل القمم الإفريقية، وحتى بالأمس عندما استضاف رئيس الوزراء الإثيوبي زعماء الدول المجاورة قادة منظمة الإيقاد كان أسياس أفورقي الغائب الأكبر!
إذا نظرنا إلى قادة الدول الإفريقية نجد أن بعضهم مصنف ضمن الرؤساء الديكتاتوريين لسمعتهم السيئة مثل أسياس أفورقي والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى جانب رئيس تشاد إدريس ديبي، لكن هناك زعماء أفارقة حققوا سمعة طيبة مثل الرئيس الرواندي بول كاغامي ورئيس الكاميرون بول بيا الذي يتجه إلى تحقيق المصالحة الشاملة في بلاده، لكن أغلب الظن أن الإنجازات التي حققها كاغامي في رواندا كالمصالحة الشعبية واستضافة اللاجئين لم ترقَ إلى درجة أن يتم ترشيحه لجائزة نوبل هذا العام، ولعله قد يرشح إليها مستقبلاً.
ولعله من طريف القول أن نذكر هنا أن الناشط المصري المعارض أحمد البقري قد علّق على تغريدة الرئيس عبدالفتاح السيسي التي هنَّأ فيها آبي أحمد بجائزة نوبل بقوله: " فاز #آبي_أحمد بجائزة نوبل للسلام؛ لأنه لم يبنِ القصور والفلل ولم ينهب ثروات شعبه ولم يقل إحنا فقرا أووي ومفيش ومنين لذلك احترمه العالم.. أما أنت يا مهزأ قتلت وسجنت واعتقلت وبعت تيران وصنافير وفرطت في حقول الغاز وصرنا في عهدك #شبه_دولة تتسول #الرز !!!"
أخيراً جاء تعليق المحتفى به آبي أحمد على الخبر مقتضباً ورائعاً، فقد أهدى الجائزة لبلده إثيوبيا والقارة الإفريقية جمعاء، وهذا هو مربط الفرس الذي كان يسعى إليه الرجل، فقد نجح في تقديم نفسه كرجل سلام وزعيم إفريقي رائد أعاد للقارة السمراء مجدها المسلوب بالإصلاحات الوطنية وعقد اتفاقات الصلح داخل البيت الإفريقي وبعيداً عن التدخلات الخارجية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.