معارك الاستقلال الوطني عن الاستعمارَين القديمَين، في عشرينات القرن الماضي. هدى شعراوي وسيزا نبراوي هما طليعة النساء المشتركات فيها. رمز من رموز معركتهن الوطنية، ربما الرمز الأشد، إذ علينا التخيّل أن النساء قبلها لم يكنّ أصلا يخرجن من بيوتهن، إلا للالتحاق بالموتى… هذا الرمز، إذن، كان خلعهن الحجاب، واعتمادهن السفور. تظاهرات إحراق الحجاب في القاهرة تكرّرت في عواصم عربية أخرى، رافقتها دائماً مطالب استقلالية. كان السفور توأم الاستقلال. وعندما صعد جمال عبد الناصر إلى السلطة، تكلم عن جماعة الإخوان المسلمين وعن الحجاب بسخريةٍ لا لبس فيها. إنه ضد الحجاب. وزوجته لا ترتديه. لم يكن قانوناً صارماً يفرض السفور، والعقوبة على الحجاب، ولكن المناخ العارم الذي أوجده عبد الناصر، مع المرحلة نفسها، كان كفيلاً بجعل السفور قانوناً غير قانوني، قانوناً ثقافياً أو إجتماعياً؛ يكتسح الحجاب في طريقه، من دون حاجةٍ إلى خطاباتٍ كثيرة، ويرسي الموضة الأوروبية بفساتينها وتنانيرها وكعوبها… ضاعف عبد الناصر من طليعية مصر، فتحوّل السفور إلى تيار جارف، يلتصق بمحاربة التخلف والتبعية، وإلى ما هنالك من شعارات تلك المرحلة.
ثم حصلت هزيمة يونيو/ حزيران 1967، وبزغ تباعاً مناخٌ آخر، عماده "الإخوان المسلمون"، العائدون بأخذ ثأرهم من عبد الناصر الذي لاحقهم واضطهدهم وأعدم أبرز منظِّريهم (سيد قطب)؛ فتدريجياً استولى حجاب النساء على العقول والمخيلات، بتيار جارف، هو الآخر. هنا أيضا، الحجاب ليس مفروضاً بقانونٍ أصدرته الدولة، ولكنه أقوى من القانون. سيلٌ فائض لا تقف بوجهه حجّة، ولا سجال، ولا تفسير، غير الذي يقول إن الله فرض على النساء الحجاب، وعليهن الالتزام، وإلا فعقوبة، اجتماعية، غير قانونية، قبل السماوية. ومع الثورة الإيرانية الإسلامية، التي فرض قائدها الخميني الحجاب بقانونٍ وبعقوبات، واعتماده سياسة تحدّي الإمبريالية والصهيونية، ترسّخت الصيغة المقلوبة عن الزمن الناصري: صار الحجاب من رموز الحرب الوطنية. وصرتَ تسمع أقوالا كثيرة رابطة بينهما. مثلاً: شيوخ الإسلام، السني والشيعي، ومنذ اللحظات الاولى للغزو الأميركي العراق، عام 2003، أطلقوا صرخة واحدة: "يا نساء العراق: ضعن الحجاب على رؤوسكن ولا تنهزمنَ"، فكانت التلبية سريعةً في العراق، وفي أقطار عربية أخرى، متفاعلة معه، أو سابقة عليه. الخلاصة أن الحجاب باتَ في تلك المرحلة رمزاً لا يقلّ تعبيراً عن السفور في المرحلة السابقة عليه: إنه، أيضاً، العداء للغرب، للثقافة الغربية وللزيّ والهندام الغربيين.
يمكن إيراد أمثلة لا تُحصى عن هذين الترابط والانفصال. لكن المهم أنني عندما كنتُ أسأل امرأة ارتدت فجأة الحجاب، من دون مقدمات، ومن دون انتمائها إلى بيئة مسيّسةٍ إسلامياً، بل أحياناً امرأة تنطبق عليها بعض المواصفات العصرية، كانت الإجابة غالباً واحدة: إنها ارتدته "لأسباب شخصية". وكنتُ دائماً أفهم هذا الجواب إغلاقاً لأيٍّ من أبواب النقاش عن الحجاب.
الآن، ماذا عن الآن؟ بعد الانتفاضات العربية، ومع ارتدادات زلْزالها، تعدّلت قليلا وتيرة الموجة. لم تبن إيران مملكة الإسلام على هذه الأرض، ونساؤها ينفجرن بين وقت وآخر ضد الحجاب، بشجاعةٍ نادرة، يخلعنه وسط الطريق، يعاقبن، يدخلن السجن. وفي النهاية، لم يعد التيار "الثوري" الهادر ساكناً في دواخلهن كما كان في بداية الثورة الإسلامية. السعودية، الدولة الإسلامية الأخرى فارضة الحجاب بقانون، تشهد تمرّداتٍ متفرقة، تسجل مواقف "سفورية" خاطفة، وقد تكون موعودة، بعد السيارات، والسفر، والمهرجانات الفنية، بشيءٍ من السفور الذي تتوق إليه السعوديات، ويمارسنه لحظة خروجهن من بلادهن. فيما "الإخوان المسلمون" فشلوا في الحكم، بأسرع مما فشل عبد الناصر. ثم "داعش" الذي يقتل السافرات، أي اللواتي لا يرتدين النقاب الأسود. وهذا كله، بداهة، ليس من الأمور "الشخصية" بشيء.
هل هذا تمهيد لموجة عاتية جديدة، ينقلب معها الحجاب إلى ما كان عليه منذ نصف قرن؟ من المبكر جداً توقّع شيءٍ من هذا. ومن الصعب تخيّل كيف سيكون هندام المسلمات العربيات بعد عشر سنوات، ما هي الحركة الجديدة التي ستحدّد شكل هندامهن. قد نعيش فترة طويلة بين الاثنين، قد نخترع هنداماً "ثالثاً"، يتلاءم مع طبيعة المرحلة الهجينة، المتقلبة، الدموية؛ الجامعة بين الخراب والتشرّد والعوز، والفخامة والتكلّف والغواية. وهذه الملامح الثلاث الاخيرة لم تغِب لحظةً مع تيار الحجاب.
الآن من لبنان؛ وفي هذه الوضعية المتأرجحة، أية امرأة محجّبة تقرر خلع حجابها لا مكان كبيرا لـ"الرأي الشخصي" في هذا القرار. سواء ارتدت الحجاب عن "تربية" أو "بيئة" أو "موقف"، سواء كان ملزما عليها، أو كانت قد اختارته بملء إرادتها. وسواء أرادت الكشف عن شعرها لأسباب جمالية أو عملية أو مهنية، أو، ببساطة أسباب تتعلق بالصورة التي تريدها لنفسها.. فإن هذا القرار محكوم، ليس بقوانين الدولة، كما في إيران أو السعودية، إنما بقوانين الطائفة أو الأهل والأقرباء والبيئة والجيرة. وإذا كانت هذه البيئة طالبة للحجاب، وفارضته على عموم نسائها، فإن معركتها ستكون عامة، لا شخصية. يقتصر الشخصي في هذه المعركة على القرار نفسه، على الطبائع التي تتمتع بها تلك الخالعة حجابها، على شجاعتها، على ثقلها ورمزيتها، بل دورها في محيطها الضيق والمتوسط. وفي مرحلةٍ فقد فيه الحجاب اليوم كل النداوة التي تمتّع بها في طلعته الأولى. وليس هذا كله بالمسألة الشخصية أبداً. إنها مسألة سياسية عامة بكل المقادير، تخوض غمارها امرأة أرادت لنفسها الحرية.
المدافعون عن "القرار الشخصي" بوجه التنمّر الذي تتعرّض له السافرة حديثاً نياتهم طيبة. يريدون حماية بطلتهم من الأذى المعنوي. ولكنهم، في مقابل تعاطفهم، يحرموننا من فهم هذه المرحلة الجديدة من الهندام، ومن مقارنتها بما سبقها، في أولى عهود الاستقلالات. وهم، بالنيات الطيبة نفسها، يجيبون بما كان يجيب به دعاة الحجاب، عندما كانوا يُسألون عن سرّ موقفهم، ويقولون إنها "خيارات شخصية"، غامزين في قناة السفور، من أنه لم يكن خياراً "شخصياً". وهم بذلك على جزء من الحق، فدعاة السفور يفعلون الشيء نفسه، عندما يجيبون بأن السفور "خيار شخصي"، غامزين بدورهم بأن الحجاب كان مفروضاً بالقوة؛ وهم أيضاً بذلك على جزء من الحق. والأكيد أن لهذا النقاش تتمة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.