عندما يتلاعب بك الأمل..
إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني، أنشد تميم البرغوثي في قصيدته الرائعة: يا شعب مصر قائلاً: يا مصر لسه ولسه الثورة بلة ريق..ما ينتهي لك طريق إلا ويبدا طريق..
تلاعبت بالمصريين منذ كلمة تميم مشاعر مختلطة بين الأمل والإحباط، اليأس والرجاء، الشعور بالقوة والإحساس بالعجز التام، وكلما انتهى طريق لثورتهم بدأ طريق آخر، تشعبت بهم المسالك، ووردوا كل المهالك، عاشوا عام أغيث فيه الناس وأعصروا حرية وتعددية وحباً وأملاً وطموحاً تلتها سبع عجاف سالت فيها الدماء، وقتلت فيها الأحلام، وأزهقت فيها الحياة فبات الحي هو من نجا بالهروب أو الوفاة، وبات الميت من ظل على قيد الحياة في المحبس الكبير والسجن الفسيح.
قضى ألفونسو السادس سبع سنين محاصراً طليطلة عاصمة الأندلس يحرق مزارعها، وينهب مواردها، ويقضي على كل منابت المقاومة ودواعي الصمود فيها حتى دانت له ودخلها كاتباً السطر الأول في سقوط الأندلس، ومثلها من السنين قضى الحكم العسكري في مصر يثبت أقدامه من جديد، يقتل كل بذور التغيير، يئد بلا رحمة كل أصوات العقل التي تعارضه، يتوغل بلا هوادة في مفاصل الدولة والمجتمع، يكون بكل وحشية إمبراطوريته الاقتصادية والاجتماعية التي تمسك بزمام الأمور حتى ظن الناس أن استقر المٌلك للملك، وقد تحولت الثورة إلى عظام ميتة، ومن يحيي العظام بعد رميم؟!
ولكن قل يحييها الذي أنشاها أول مرة وهو بكل خلق عليم، يظهر من داخل إمبراطورية الفراعنة موسى جديد يكسر التابوهات، يعلن الغضب على الآلهة، ويحشد الناس في 20 سبتمبر/أيلول، فما الذي حدث في 20 سبتمبر/أيلول؟ هل هي فقاعة أمل أم بارقة تغيير حقيقية؟ ماذا تغير في المنظومة الحاكمة بعد هذا التاريخ؟ هل يرى الشعب المصري النور من جديد؟ قراءتنا للماضي واستقراؤنا للتاريخ نستعرض من خلالها ما الذي تغير في نقاط في ثنايا السطور القادمة..
1- محمد علي.. موسى الذي فعل ما لم تفعله جموع المعارضة
الجميع يعودون للوقوف تحت سقف واحد للمرة الأولى منذ 2011..
بعد إعلان التنحي في فبراير/شباط 2011، تفرق جمع الثوار الذي كان متوحداً ولم يعد أبداً، اختلف أنصار الأمس وتبادلوا الاتهامات بالتخوين والعمالة والتكفير والسعي للاستحواذ على السلطة وغيرها. كان خط الانقسام يسير بمنحنى تصاعدي غير مسبوق فلا أحد يستمع لصوت العقل، والجميع يسيرون نحو الهاوية.
عاد الحكم العسكري للواجهة من جديد في 2013، ورغم ذلك لم ينتهِ الانقسام، فالإخوان ومن خلفهم من معسكر الإسلاميين يتهمون شباب الثورة بأن العسكر جاء بدباباته على ظهورهم وبأصواتهم، وتطال الإخوان اتهامات الغباء والسذاجة ومحاولات الأخونة التي كانت السبب في رفض الثوار لهم، فشلت كل محاولات الاصطفاف، ذهبت كل جهود توحيد الرؤى هباء منثوراً، على النقيض انقسمت الهيئات الثورية على نفسها فظهرت الانشقاقات في المجلس الثوري المصري، وطفت على السطح بوادر انقسام بين شباب الإخوان وقياداتهم، وأعلن شباب الألتراس حل روابطهم.
كانت كل خطابات السياسيين بمعزل عن الشعوب، وكل التصريحات التي تخرج من المقيمين بالخارج كلمات رسمية لا تعبر عن الواقع ولا تتحدث باسم الناس وتبث أملاً زائفاً وتفاؤلاً كاذباً، حتى ظهر محمد علي المقاول المصري الذي توحد خلفه الجميع.
التغيير الأول: أن الجميع أدرك أنه في وجود الحكم العسكري فلا بقاء للحياة وأن الكل في خطر، فالخطوة الأولى هي خلع كل القبعات والتوحد خلف إسقاط الحكم العسكري بأي شكل من الأشكال، اختفت كل الحروب الكلامية على تويتر وفي الشارع وبات الجميع يتحدث وفقط عن إسقاط السيسي والرجوع للتحرير، عمرو واكد الفنان الليبرالي يغرد جنباً إلى جنب مع عبدالرحمن عز الصحفي الإخواني ينادون سوياً بالحرية لماهينور المصري المحامية الاشتراكية، وهذا التغير من أهم مكاسب سبتمبر/أيلول.
2- الجليد لا يتساقط في لحظات.. الانهيار يزحف ببطء
أحدثت تصريحات محمد علي، وما تبعها من أسرار خطيرة أدلى بها الناشط السيناوي مسعد أبوفجر عن العمليات في سيناء هزة لا يستهان بها في أوساط الجيش. المؤسسة التي تمسك بزمام الأمور شعرت أن السيسي يتلاعب بمقدراتها ويقذف بأبنائها للهاوية ويغامر بهم في معارك خاسرة وقد يضحي بهم الواحد تلو الاخر كما فعل مع حجازي وعنان وغيرهما.
لا ننكر أن السيسي استطاع تدارك الأمر ولو ظاهرياً عبر التطمينات التي كررها في خطاباته بداية من مؤتمر الشباب، ثم مؤتمر الأمم المتحدة، ثم رسائله عبر أبواقه الإعلامية التي وجهها للجيش قبل الشعب ليطمئنهم ويكسب ثقتهم من جديد.
لكن هذه الهزة قد تتعمق في المستقبل القريب، ومع تواصل أخطاء السيسي وزيادة الغضب الشعبي عليه ستحاول الأطراف التي ترغب في إبعاده الانقضاض عليه من جديد في أقرب فرصة.
3- هناك عنصر جديد في معادلة يناير.. الوعي هو سيد المشهد
في يناير/كانون الثاني، كانت نشوة هدم النظام الذي كبح على النفوس ثلاثة عقود تغطي كل شيء، كانت ثقة الشعب في نفسه ونزوته بانتصارته تعمي عينه عن كل شيء، لم تؤرقنا التساؤلات التي كنا يجب أن نفكر فيها فلم نبحث عن الإجابات فتهنا وتاهت ثورتنا وافترسها النظام العسكري من جديد.
وبعد السبع العجاف، تربى الشعب من جديد، ونضج ثوار يناير، ففي أحداث 20 سبتمبر/أيلول كان الجميع يطرح التساؤلات منذ اللحظة الأولى عن حقيقة صراع الأجهزة الدائر! عن المستقبل بعد رحيل السيسي! عن ضرورة العمل ألا ننجو من النظام لنسقط في أحضان أذناب النظام! أدرك أن هذه تساؤلات بدت وقتها سابقة لوانها، ولكن لا بد منها، فالوعي هو رأس الحربة لنجاح ما كنا نتمنى أن يتحول لثورة.
أخيراً..
أدرك تمام الإدراك أن يوم 20 سبتمبر/أيلول وما تلاه أصاب البعض بالإحباط بعد تجدد الأمل والتعلق بالقشاية التي ظهرت، ولكن كما بدأت ببيت تميم أختم به: فيا مصر لسه ولسه الثورة بلة ريق..ما ينتهي لك طريق إلا ويبدا طريق..
أحداث 20 سبتمبر/أيلول هي مجرد قشاية من مجموعة من القش التي ستقصم ظهر البعير عاجلاً أم آجلاً، أثبتت هذه الأحداث أن هذا الشعب حي لا زال يتنفس حب هذه البلاد، وأظهرت لكل ذي عين ما تعنيه مصر في عيون العالم، المستقبل القريب سيذكر هذه الأحداث كما خلد حركة الخبز في السبعينيات، وكما سطر بحروف الذهب احتجاجات 2010 في عهد مبارك، ومن قراءتنا للتاريخ الذي لا يكذب فما حدث في 20 سبتمبر/أيلول 2019 هو بشارة بشيء أكبر قادم آجلاً فاستبشروا وثقوا وكونوا في الموعد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.