في ستينيات القرن الماضي، كان اليسار العربي يرى أن الأنظمة السياسية العربية التي جاءت عبر انقلابات عسكرية ضد الأنظمة الملكية منقسمة بين جناحين: أحدهما جناح وطني اشتراكي، والآخر جناح رأسمالي استبدادي، ورأى اليسار العربي أن عليه دعم الجناح الوطني الاشتراكي في تلك الأنظمة رغم عيوبه بهدف إزاحة الجناح الرأسمالي الاستبدادي. تراجع بعض المثقفين اليساريين لاحقاً عن تلك الأفكار جزئياً أو كلياً، لكن ما حدث على كل حال باتفاق الجميع أن تلك الأنظمة اتجهت عن وعي تام بعيداً عن كل ما هو وطني أو اشتراكي أو ديمقراطي.
تشبه أطروحة صراع الأجهزة اليوم تلك النظرية إلى حد ما، وإن كانت أكثر سطحية منها. نعلم جيداً أن المخابرات الحربية كانت هي الجهاز الذي تولى ملف الأمن السياسي في مصر عقب الضربة التي تلقاها جهاز أمن الدولة صبيحة ثورة يناير، كما نعلم أن المخابرات العامة قد فقدت كثيراً من قوتها منذ ثورة يناير بعد الإطاحة برجلها القوي عمر سليمان، ثم الإقالات المتتالية التي نفذها عبدالفتاح السيسي منذ صعوده الرسمي إلى السلطة في 2014، بل وقبل ذلك عندما كان الرجل القوي في الدولة المصرية في ظل المرحلة الانتقالية التي قادها الرئيس الصوري عدلي منصور. من الطبيعي كذلك أن نتوقع أن الأداء السياسي لعبدالفتاح السيسي على مدى السنوات الماضية كفيل بخلق حالة من السخط بين أفراد يحتلون مواقع متقدمة في خريطة الدولة المصرية.
على الرغم من كل ذلك، لا يمكننا بعد الحديث عن صراع أجنحة داخل السلطة المصرية. إذ يستلزم الحديث عن أجنحة متصارعة أن يكون لدى كل جناح مراكز قوة تضمن الحفاظ على موقعه في السلطة رغم مناوئته للجناح الآخر حتى وإن كان الجناح الآخر أقوى منه. يمكننا أن نجد مثالاً قريباً من ذلك في الحالة المصرية في الحقبة الناصرية، حين كان الجميع يعلم أن المشير عبدالحكيم عامر يمثل مركز قوى داخل النظام لا يمكن للرئيس جمال عبدالناصر الإطاحة به دون أن يتحسب لردة الفعل لهذا القرار، وهي ردة الفعل التي كان من المتوقع أحياناً أن تصل إلى الإطاحة بعبدالناصر نفسه. كما كان من الممكن الحديث عن أجنحة من هذا النوع في السعودية في الماضي القريب قبل الإطاحة بمحمد بن نايف التي عنت استفراد ولي العهد محمد بن سلمان بالسلطة نهائياً.
يستلزم الحديث عن أجنحة بعد ذلك أن يكون هناك صدع داخل النظام السياسي يقسمه إلى أطراف لديها رؤى مختلفة ليس حول بعض المصالح الخاصة، وإنما حول الرؤية العامة للنظام السياسي المأمول. قد نجد تلك الحالة المتقدمة في بلدان أوروبا الجنوبية التي شهدت موجة من التحول الديمقراطي خلال السبعينات وعرفت بعض أنظمتها صدعاً بين أجنحة عسكرية محافظة وقريبة من الولايات المتحدة ومعادية للشيوعية، وبين أجنحة مدنية سياسية أكثر استعداداً للانفتاح السياسي وأكثر ميلاً إلى التقارب مع سائر البلدان الأوروبية آنذاك. في تلك الحالات المتقدمة، غالباً ما يكون كل جناح من تلك الأجنحة يعبر عن كتل اجتماعية ضخمة ويدافع عن مصالحها، وهو ما يضمن له أرضية صلبة تمنع اختفائه بمجرد الإطاحة بأحد مراكز القوى الخاصة به على خلاف الحالات البدائية التي أشرنا إليها في مصر والسعودية.
يكمن الخطر في أطروحة صراع الأجهزة في أنها قد تخفي حقيقة أن النظام السياسي المصري قد وصل إلى مرحلة من الشيخوخة صار من الصعب معها أن يتحقق أي من الشرطين السابقين لنشأة أجنحة متصارعة على السلطة من رحم النظام نفسه. فبخصوص مراكز القوى، أدى الانهيار المديد لمؤسسات الدولة كالشرطة والقضاء، وربما الجيش أيضا حديثاً، وهو انهيار على صعيد الكفاءة والحد الأدنى من المهنية وليس على صعيد القيم والوطنية فحسب، إلى صعوبة أن تنشأ مراكز قوى مستقلة داخل النظام خارج عباءة الشخص الحاكم وسلطاته شبه الإلهية. وقد ساعد على ذلك انصهار التمايزات الحديثة بين قطاعات السلطة، كالتمايز بين مؤسسة الحكومة والمؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية، بحيث لم يعد بالإمكان الحديث عن رئيس حكومة قوي ورئيس برلمان فاعل وعسكريين متنفذين لدى كل منهم أدوات ورؤى ومصالح متباينة.
أما على صعيد الصدع السياسي الممكن داخل النظام، فإن الحاصل هو أن الدولة قد تم تكبيلها على مدى سنوات بخيارات سياسية واقتصادية أضحى من الصعب معها أن يطرح أي من أجنحتها خيارات جديدة. لذلك يمكننا القول إن عبدالفتاح السيسي ليس قناعاً ترتديه الدولة المصرية وهي قادرة على تغييره عند اللزوم على غرار ما تم مع مبارك، بل هو وجه الدولة المصرية التي تدرك اليوم أن أي إصلاح جاد وأي تحرك واسع في الشارع سيعني بوضوح تهديد صلاحية مشروعها بأبعاده المختلفة كهيمنة الجيش على السياسة المصرية، والنيوليبرالية الاقتصادية، والسياسات الإقليمية والدولة المعادية للقضية الفلسطينية والإسلام السياسي والديمقراطية والاستقلال الوطني.
الشعبوية أكثر من مجرد كلمة
إن إدراك ذلك الوضع يعني أن انتظار صدع ما داخل النظام هو أشبه بانتظار جودو، وأن قيام جناح ما من داخل السلطة بطرح رؤية مختلفة والدخول في صراع جاد مع الجناح الحاكم بالفعل ليس أكثر احتمالاً من قيامة العنقاء. يبقى الجانب المضيء مع ذلك هو أن الدولة قد بلغت شيخوختها التي فقدت معها قدرتها على المناورة والمخاتلة بأقنعة مختلفة بعدما أن أسفر السيسي عن وجهها بوضوح عبر دفع الجيش، الذي كان يلعب دور المخرج المستتر في الكواليس، إلى خشبة المسرح.
في ظل ذلك الوضع، يكون من الضروري أن يتقدم فاعل من خارج الدولة ليطرح نفسه كبديل ممكن يملك مشروعاً مختلفاً للسلطة يعبر عن كتل شعبية واسعة ويحمل تسوية اجتماعية أو عقداً اجتماعياً جديداً لجميع الأطراف. يشبه ذلك الدور الذي لعبته بعض قوى المعارضة في كوريا الجنوبية والحركة الديمقراطية في البرازيل وحزب العدالة التنمية في تركيا. إن مهمة ذلك الفاعل ليس تحريك الشارع، فالشارع سيتحرك حتماً، وربما تكون احتجاجات سبتمبر هي بداية تحركه بالفعل، ولكن مهمة ذلك الفاعل أن يطرح نفسه في اللحظة المناسبة عندما تسنح الفرصة التي لا يفترض به أن يتعجلها كما لا يفترض به أن يفوتها.
يفترض بذلك الفاعل أن يكون مدركاً للكتل الشعبية المختلفة ولمصالحها ولتلك المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمكنه أن يعبر عنها كما لتلك المصالح التي عليه أن يناوئها. وعبر ذلك، يعيد ذلك الفاعل تعريف الشعب وتعريف السلطة المعادية للشعب التي يسعى لإسقاطها. إن ذلك بالضبط هو جوهر ما يسمى الشعبوية.
لا تعني الشعبوية كما استقبلها بعض المحللين مجرد الخطاب التحريضي البسيط الذي يومض ثم يختفي سريعاً ويعجز عن طرح مشروع جديد للسلطة، وإنما تعني إعادة تعريف الشعب عبر حصره في بعض الكتل الشعبية التي تتضمن طبقات وفئات ومناطق تم حرمانها على مدى سنوات ممتدة من التمثيل السياسي الذي تستحقه. ومحاولة خلق وعاء جامع لتلك الكتل يقوم على المشترك الثقافي والوطني بينها، ضد نخبة السلطة التي تمثل الطبقات والفئات التي استفادت على مدى سنوات من الأوضاع القائمة ودعمتها.
تحتاج الشعبوية لذلك، ليس إلى السذاجة ومعاداة المعرفة، بل إلى وعي عميق بالتناقضات والمشكلات الاجتماعية القائمة والانقسامات القائمة داخل الشعب نفسه والمشتركات التي يمكن البناء عليها، ثم هي بحاجة إلى نخبة قادرة على الاتصال بتلك الكتل الشعبية المختلفة وعلى طرح خطاب مقنع وجامع لها، ومناوئ للوضع القائم، ثم تكون تلك النخبة قادرة على التفاوض باسم هذا الشعب وخلق مشروع لسلطة جديدة تمثل مصالح وقيم مختلفة، وتملك رؤية لإعادة هيكلة الدولة وفق تلك المصالح والرؤى.
على سبيل المثال، لا يشكل الفلاحون في مصر طبقة واحدة، فثمة تباينات واسعة في الميول السياسية، كما في الأوضاع الاقتصادية بين فلاحي الدلتا الذين يحملون ميلاً أصيلاً إلى الدولة وفلاحي الصعيد الذين يشعرون بالغبن تجاه تلك الدولة. كما ثمة تباينات ثقافية بين الطبقة الوسطى في الأقاليم والطبقة الوسطى القاهرية، وهناك تناقضات قائمة ضمن طبقة رجال الأعمال نفسها بشرائحها المتفاوتة في حجم رأس المال كما في ارتباطها بالسلطة من جهة، وبالخارج من جهة أخرى. وعبر جمع المطالب المختلفة لبعض تلك الفئات وبلورتها في خطاب سياسي مشترك يكون من الممكن الحديث عن شعبوية جادة يمكن أن تنجح نخبتها إن تمتعت بالكفاءة اللازمة أن تطرح مشروع سلطة جديدة ومختلفة.
إن تلك هي المهمة الثورية الموكلة إلى النخب السياسية والثقافية الجديدة في مصر، وهي المهمة التي من الخطر أن تغيب وراء تحليلات متسرعة عن أجنحة محتملة داخل السلطة أو تحولات عالمية تكون بحد ذاتها كفيلة على أن تنقذنا دون إرادة واعية منا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.