«يا ماما تعالي شطفيني»!

عربي بوست
تم النشر: 2019/10/04 الساعة 11:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/10/04 الساعة 11:17 بتوقيت غرينتش
قشّ البيت ومسحه، وإحضار الطلبات، ورمي القمامة، كل هذا لم يُخلق للأنثى فقط، ولم تُخلق له الأنثى فقط.

"ماما هاتيلي أشرب".. فتأتي المسكينة بكوب المياه ولو كانت بين النوم واليقظة على سريرها بالغرفة البعيدة، وكنت أنا بالصالة جوار المطبخ ويفصلني عن الماء قفزة وخطوة و"شوية" دم، ولو كانت هي في مشرق الأرض وكنت أنا -والماء- في مغربها، ستأتي من الشرق إلى الغرب، لأنها تعلم أنها إن تركت "سيد قشطة" الذي تملكه عطشاناً، فلن يقوم، ليروي نفسه، إلى الأبد.

تقف السيدة الكريمة في المطبخ بين ثلاثة أوانٍ وأربعة أوعية وموقد وعيون مشتعلة ومبشرة بصل وحساء يهدر ودجاج يسلق وقيامة تقوم وتقعد، ويجلس السيد، سي السيد، على الأريكة متابعاً التلفاز أو متصفحاً الهاتف، ويناديها بصوته الخشن كأي نداء بين سيد وجارية في قريش القديمة أو قريش الجديدة، طالباً منها شيئاً تافهاً جداً –ليس أتفه منه هو نفسه على أي حال- يأمرها بفرمان جمهوري، أن تقشر له برتقالة ليأكلها إلى أن تنتهي من إعداد العشاء، والمطلوب سيدي ليس إطلاقاً أن يساعدها، فهذا أمر يعود إلى ما تعوده من المساعدة والمسؤولية، لكن المسألة مسألة تتعلق بمقدار المروءة المتبقية لديه من آخر برتقالة قشرتها له وهي واقفة في المطبخ بين بخار الأواعي كالفارس بين غبار المعركة.

وها هو يجلس صاحبنا الآخر ساعةً، ينتظر الخادمة -الأم- لتعود من الخارج بعد تسوُّق مجهد، لا لتعد له الطعام، وإنما لتسخنه له، فقط ستشعل النار تحته، أو ستضعه في الفرن مع حركة بسيطة لتشغيله، وهو عاجز كل العجز عن أن يترك مهماته الوزارية دقيقةً ليضع الطعام على النار، ثم بعد قليل دقيقة أخرى ليضع الطعام عن النار، هذا هو كل ما في الحكاية، لكن الحكاية صعبة على حضرة المحترم، "ننوس عين ماما"، وكانت سترتاح جداً لو أشعلت النار تحته هو بدلاً من الطعام، فقام.

والأمهات والأخوات والزوجات مسكينات حين لا يرفضن طلباً ولا يعارضن أمراً، لأن طريقة الحب لديهم مختلفة، فاللقمة الحلوة تملأ فم الرجل بالكلام الحلو، فيُطعم أذنها كلما أطعمت معدته، فيشبعان، ولكل طريقته في الشبع، وهذا جانب من جوانب كثيرة بين الزوجين أو الرجل والمرأة أياً كانت العلاقة التي تربطهما، أمومة، أو أخوة، أو غيرهما، لكن الفكرة في هذا الذكر الذي يخلع عنه ثوب الرجولة، فيتخيل الأنثى "سوبر وومان" تستطيع أن تفعل له كل شيء في كل وقت، وهو جالس مكانه كأبي الهول، بينما تبني هي الأهرامات.

وأنا هنا لا أدافع عن المرأة، وإنما أهاجم الرجل وأنا واقف في صف الرجال، أقول له لو لم يخلق الله إناثاً في هذا الكوكب حتى، فإنه حريٌّ بك من البداية أن تتعلم كيف تغسل الأواني، وكيف تعد الطعام، وكيف "تفصص" السمك، وكيف تصنع الشاي، وكيف تملأ كوب المياه من مبرد المياه، وهنا تحضرني جملة شهيرة جرت على لسان كل منا في فترة مخجلة وجرئية في الوقت ذاته، من حياتنا، كان يقول فيها بكل ارتياح: "ماما تعالي شطفيني"، وأظنها مرحلة انتهت، وبلغنا الفطام منذ زمن طويل، وخطت شوارب الذكورة على وجوهنا، وفعلت الهرمونات بأصواتنا فعلتها، لكننا ظنّنا أن الصوت خُلق ليأمر ويشخط، ونسينا أنه مجرد اختلاف بين كائن رقيق صوتاً وصمتاً، وكائن قد يملك الرقة في قلبه لكنها لا تنعكس على صوته بأي حال.

أكتب هذا وأعلم علم اليقين أنني سأهاجَم من أبناء جنسي العزيز، سيتهمونني بالتمرد أو التحريض على ثورة، سيرمونني بأنني جُننت، ونسيت ما وجدنا عليه بعض آبائنا، فمعروفٌ يا ماجنُ أن المطبخ للسيدات، وأنا أتفق أن الله خلق لهم نفَساً جميلاً يقدر على صنع الطعام، لكنني لا أتفق في أن الأواني، المتروكة بعد الطعام، خُلقت للسيدات أيضاً، فالمطبخ للجنسين، بعضه لهذا وبعضه لتلك، والصالة، والحمام، وكوي القمصان، وتعليق الغسيل، وجمع الملابس بعد جفافها على الحبل، ورصها في الخزانة، وقشّ البيت ومسحه، وإحضار الطلبات، ورمي القمامة، وألف شيء آخر، كل هذا لم يُخلق للأنثى فقط، ولم تُخلق له الأنثى فقط.

وأنا بعيد كل البعد عن ذِكر مناقب النبي صلى الله عليه وسلم، أو قص سير الصحابة، أو ضرب الأمثلة بالتابعين، وإنما أريد أن أعود إلى شيء له علاقة بالفطرة، لمحمد الإنسان قبل محمد النبي، وللرجل فلان قبل أن يكون الذكر فلان، وللطبيعة التي تحتم على كل صاحب بيتٍ أن يكرمه، وكل صاحبِ رعيةٍ أن يقبل يدها بعد كل جميل تصنعه، وأن يحمل عن يدها كل ثقيلٍ ترفعه، وأن يجعل من نفسه رجلاً كامل الرجولة، مهتماً بالقوارير التي بلا روح، ومكرماً للقوارير صاحبة الأرواح.

ويحضرني الآن أن ألوم على أمي في كل مرة أتت لي فيها بكوب مياهٍ وهي منشغلة في الطعام وأنا جالسٌ أمام التلفاز، وأعتذر على كل مرةٍ ظننتُ فيها أنها خُلقت للأشغال الشاقة المؤبدة، لا للحب الذي تعبر عنه بتقديم عينيها لي كلما أشرت لها، فاستغللتُ الحب وغفلت عن تقديره. 

وأقبِّل يد الظروف التي أعلمتني كيف كنت ماسخاً في فترةٍ طويلةٍ من عمري، لم أعانِ فيها من حملٍ ولا ولادةٍ حتى يعَد لي الطعام وتُغسل من بعدي أوانيه وأنا نائم على ظهري آخذ ساعة نقاهة، وأظن نفسي داوودَ البيت، وأظن أهل البيت جناً يعملون بين يديّ ما أشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات.

وندائي لأبناء ذكورتنا العزيزة، باسمِ الفطرة والغريزة، أن نجرب، فلعلنا نجد أنفسنا في المطبخ كذلك، ولعلنا نجد حصتنا من النكد اليومي تنقلب سروراً، حين نهتم بآل بيوتنا، ولعلنا إن كنا حتى في بيوتٍ نعيش بها وحدنا، عسانا أن نجد البيت لا يشبه "الزريبة"، لأننا إنسٌ لا حيوان، ولأن الإهمال على قدرِ ظرافته في التندر به، فلا يدل في الحقيقة إلا على أنَّ شيئاً لم يتغير، منذ كنتَ تنادي "يا ماما تعالي شطفيني".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد