«آرسين أبو دبورة».. قصة ثوريّ من إخراج داوود عبدالسيد

عربي بوست
تم النشر: 2019/10/04 الساعة 12:18 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/10/04 الساعة 13:22 بتوقيت غرينتش

"من المستحيل أن نخسر، كيف نخسر ونحن نضم هذا الفريق الرائع؟ هيا يا رفاق، استعدوا للمتعة داخل الملعب أثناء المباراة وبعدها".

كانت هذه الكلمات أبرز ما قاله يوهان كرويف، مدرب فريق الأحلام الكاتالوني في مطلع التسعينات، قبل ساعات قليلة من نهائي أثينا الشهير بين فريقه برشلونة وخصمه ميلان، بقيادة الإيطالي فابيو كابيلو، إنه النهائي الذي قلب خارطة اللعبة كما وصفه الخبراء.

قليلون من لعبوا مع الخسران، وساروا عكس التيار، رجل مجنون في الأرجنتين اسمه مارسيلو بييلسا، وأفلاطون هولندي لامس ذات الأذنين رفقة جيل التلامذة في أمستردام، وفرنسي نحيف ذهب لليابان، وبدلًا من عودته إلى بلاده عرّج ناحية مهد اللعبة، وصنع شيئاً جديداً، وجاء بمفاهيم مختلفة غيَّرت شكل وطبيعة ومسار الكرة في إنجلترا، وما حولها.

عظمة فينغر مع أرسنال لم تكن على مستوى كم بطولة كأس أو بريميرليغ أحرزها، أو وصوله لنهائي دوري أبطال أوروبا ذات يوم، ولا حتى الفوز بدوري اللاهزيمة، ولا حتى اكتشافه لهنري وبيرجكامب وبيريس وغيرهم، ولكن، استثنائية آرسين أتت من كونه مجدداً حقيقياً في بلاد تقدس التقاليد، لقد غير شكل الكرة في الدوري الإنجليزي، من الكرات العالية واللعب البدني إلى التمريرات القصيرة واللمسة الجمالية.

وعلى مستوى أرسنال جعله نادياً ذا طابع مختلف، وكاريزما قياسية، لدرجة تأثيره على أجيال عديدة، شاهدت المستديرة وتعصبت لأجلها، عبر منتصف التسعينات وأوائل الألفية، حتى إنهم يتذكرون جيل فينغر وهنري وبيرجكامب، ويحترمونهم بمقاييس تتفوق أميالاً عن فرق فازت بدوري الأبطال، ومنتخبات أحرزت كأس العالم في الحقبة ذاتها!

"الجمال وظيفتي، والانتصار بمثابة الإمكانية الممتعة"

* في كتابه "ذا ميسكر"، يشرح "زونال ماركينج" تفاصيل تطور الدوري الإنجليزي من البدايات حتى الآن، وعند حديثه عن أرسنال، وصف المحلل فينغر كالتالي: "آرسين واحد من أكثر المدربين تأثيراً في تاريخ إنجلترا. لقد جلب أفكاراً جديدة إلى المسابقة، وأدخل نوعيات من اللاعبين لم تكن متاحة من قبل، ومزج بين الشق البدني والجانب المهاري في قالب واحد، نتج عنه صناعة فريق لا يقهر خلال حقبة ما".

لعب أرسنال مثل معظم فرق الدوري في منتصف التسعينات برسم قريب من 3-5-2 مع ثنائي هجومي وليبرو بالخلف، حتى تحول البعض إلى 4-4-2 التقليدية المعروفة في إنجلترا، حتى قرر فينغر الاعتماد على رسم 4-4-2 الخاص به والذي يختلف جذرياً عن المسار التكتيكي المعروف بالبريميرليغ.

نعود لتحليل "ذا ميكسر" عند هذه النقطة: "مثل الكثير من الآخرين الثوريين، كان الفرنسي ضحية لنجاحه الخاص". سرعان ما كرر مديرون آخرون نهجه مع إمكانات أكبر وحيوية أكثر شراسة، خاصة في المجالات الثلاثة التي غيّر فيها بشكل كبير كرة القدم الإنجليزية: الشق البدني، وجلب اللاعبين من الخارج وزيادة التركيز على الفنيات والمهارات.

هنا يظهر فينغر وكأنه أحد أبطال المخرج المصري القدير داود عبدالسيد!

الوصول إلى أرض الخوف، المهمة التي حولت ضابط الشرطة في سينما داود إلى تاجر مخدرات بإرادته، حتى يدخل في تفاصيل العالم السفلي، ويتعرف عن قرب على كبار المفسدين، وكأنه ترك الجنة ونزل إلى الأرض.

في مسيرة فينغر، خطوة شبيهة أقرب إلى الاقتباس. كرة القدم تتغير، مفاهيم جديدة تدخل وأخرى قديمة تندثر، ابحث عن "المودرن فوتبول" وسرها الباتع، من خلال صعود أندية بترولية وتغير خارطة اللعبة إلى حد ما.

أصبح مطلوباً من آرسين أن ينافس رؤوس الأموال، لكن بدون أدوات شبيهة، فالملاك يريدون زيادة ثرواتهم، وبناء ملعب جديد، ومضاعفة موارد النادي، وجعل أرسنال مثل الدجاجة التي تبيض ذهباً. تكفل فينغر بذلك، ساعدهم مالياً واقتصادياً بالقدر المطلوب، ولم يبتعد عن دوري الأبطال والمربع الذهبي للبريميرليغ، واكتشف أكثر من لاعب، ليتم صقل موهبتهم، ومن ثم إعادة بيعهم إلى فرق أخرى، وهكذا.

صحيح أنه نسي شكل البطولات وطعمها، ولم يعد من مدربي الصف الأول -على الأقل إعلامياً وجماهيرياً- وتحمل هجمات شديدة القسوة من المشجعين والأنصار، مع شماتة تصل إلى ثقل الدم الممزوج بالـ "ساركازم" من الجميع، الصديق قبل العدو. وسط كل ذلك، تكيف فينغر مع مهتمه الجديدة، وبدا راضياً عن كونه المدرب، والكشاف، والمدير الرياضي، ومسؤول التعاقدات، والمتحدث الإعلامي، والأب الروحي، والصدي للفريق واللاعبين وجميع أعضاء النادي، ليعلن نفسه عدواً حقيقياً لمفاهيم التكتيك الحديث وقواعد اللعبة الجديدة.

"كل هذا كان من أجل هدف أسمى يرفع عن كاهلي الخطايا، ولكنه لا يحميني من الأخطاء، لذلك فقد كان ارتكاب الخطايا أسهل كثيراً من ارتكاب الأخطاء"

  • يحيى أبو دبورة، أرض الخوف.

لست من النقاد السينمائيين، ولن أكون، وأعرف تماماً أن فيلم مثل (أرض الخوف) له ألف وجه في الفهم والتفسير، لكنني أجد نفسي مشدوداً باستمرار لطريقة سرد البطل "أحمد ذكي" في البدايات والنهايات، من لغة عربية فصحى إلى أخرى ركيكة، ومن اليقين إلى الشك، ومن الإيمان الكامل بالمهمة إلى التراجع والغضب والخوف، والحنين إلى أرض الخوف.

بالمثل فينغر، اللعب الجميل وحده لا يكفي، المركز الرابع لم يعد غاية، حتى تحقيق كأس إنجلترا فقط بات هدفاً ضعيفاً، لأن الأهم هو الفوز بالدوري الإنجليزي الغائب منذ 2004، أو حتى المنافسة الفعلية حتى الأسبوع الأخير، بعد أن عبرت إدارة أرسنال التحدي المالي، وحصلوا على الملعب الجديد، وزادت الإيرادات وقلت المصروفات.

أُجبر فينغر على ترك أرض الخوف التي ذهب لها بإرادة الملاك، وعاد من جديد إلى حياته الطبيعية كمدير فني فقط، دوره إعداد الخطط وتجهيز اللاعبين، وتحقيق النقاط، والفوز بالبطولات، وهذا ما لم يقدر الأستاذ على استعادته، لقد نسي جوانب عديدة من شخصيته القديمة، ليظهر متأثراً بشدة بالفترة التي قضاها في عالم التمثيل المشرف.

مثل الموظفين الكلاسيكيين الذين يعيشون في مكاتبهم، بينما يقوم منافسوه بالحركة والركض والجنون على الخط، وتطوير لاعبيهم وتغيير خططهم وتطوير تكتيكهم، مع ترك الأمور المالية والاقتصادية وحتى التقنية والإدارية لجيش جرار من المساعدين والمعاونين. لقد تجاوزه الزمن وعبر من أمامه، ولم يعد قادراً على اللحاق به، أو حتى الاقتراب منه!

"عادت لي كرة القدم، كما لم أعرفها من قبل، وبقي الحذر والخوف رفيقين دائمين، وبقيت ذكرياتي، وظل حنيني لأرض الخوف".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد مختار
صحافي رياضي، وكاتب مهتم بالتحليل والحديث عن كرة القدم وقصصها.
صحافي رياضي، وكاتب مهتم بالتحليل والحديث عن كرة القدم وقصصها.