المرة الأولى التي تعرفت فيها على المخرج الأمريكي وودي آلان كانت المرة الأولى التي أشاهد له فيلماً والمرة الأولى التي يعلق بذاكرتي سيناريو لم يكن من الممكن تجاوزه أو إخراجه من قائمة أفلامي المفضلة.
كنت مراهقاً حين عاد أبي ذات يوم إلى البيت ومعه صحفه ومجلاته وفيلم سرعان ما أفرج عنه بالقول : أعطاني اليوم فلان فيلماً لوودي آلان بعنوان "قصص من نيويورك".. وكعادة أبي، راح يشاركنا الحديث عن هذا المخرج الأمريكي صاحب الرقم القياسي بالحصول على الأوسكار.
لم يعلق هذا الفيلم في ذاكرتي لقيمته الدرامية ولا لعظمة إنتاجه، ما لفتني ودفعني إلى مشاهدته مراراً هو الطريقة النقدية الساخرة التي وصف بها المخرج مدينة نيويورك وساكنيها بأسلوب ماغوطي رسم فيما بعد وبشكل تراكمي ما وصلت له شخصيتي بعد ثلاثين عاماً بالتمام والكمال على مشاهدتي هذا الفيلم للمرة الأولى.. وعلى الرغم من كل النجاح الذي حققه وودي آلان، فما زلت أكرر المقولة نفسها التي اعتدت عليها منذ أن بدأت أتلمس ما يجري حولي من أحداث ومشاهد يومية: ماذا لو عاش وودي آلان في سوريا بدل نيويورك؟ وراح يكتب عن السوريين بدلاً من الكتابة عن النيويوركيين.
ففي سوريا، كان وودي آلان سيصور شاباً متحمساً يتصبب عرقاً في أحد الاحتفالات بذكرى جلاء آخر جندي فرنسي عن بلاده لينتقل بكاميرته في اليوم الثاني إلى مبنى السفارة الفرنسية في دمشق حين سيقف ذلك الشاب المتحمس نفسه، والذي أصابته البارحة حمى النصر، كغنمة تجيب على أسئلة موظف في السفارة أملاً بالحصول على تأشيرة سفر إلى فرنسا بحثاً عن مكان يقضي فيه ما بقي من عمره وأحلامه.
في سوريا، كان وودي آلان سيكتب عن الشاب السوري الذي سيق إلى السجن بتهمة رشوة أحد موظفي الدولة وخرج برشوة أحد قضاتها، ووالله ما كنت سأطالب وودي آلان بدولار واحد لو قمت أنا بتمثيل الدور في فيلمه، كوني ذلك الشاب السوري الذي لم تتعدَّ رشاويه للضابط أكثر من كيلو سمك أو بأحسن الحال زجاجة عطر بيانتر، فقط لأزور أبي وهو ينتظر الموت في فراشه وابنه البكر بعيد عنه.
ولا أظن أن وودي آلان سيتردد في تصوير سكيتش عن محاولات مواطن سوري وعلى مدى سنوات طويلة في الحصول على تأشيرة خروج إلى الولايات المتحدة ساعياً لتحقيق الحلم الأمريكي، ليقوم موظف مطار واشنطن باستجوابه وبعثه إلى مستوطنته سوريا بعد أن دافع بشراسة عن حقه في إدخال الشنكليش والمكدوس إلى بلاد العم سام.
وهل كانت ستمر على وودي آلان قصة ذلك الأب الستيني الذي ثار على نظامه بغية تحسين وضع عائلته، لينتفض لاحقاً، بعد النزوح على مستضيفيه في خيام اللجوء، مطالباً بالحصول على خيمة ثانية لعروسه الجديدة.
وهل كان من الممكن ألا يلقي وودي آلان الضوء على شعب يخشى أن يتم القبض عليه في صورة تجمعه مع معارض نزيه لا يملك إلا قلمه وصوته، بينما يحاول جاهداً إقحام نفسه في طابور المنفصمين للوقوف إلى جانب معارض يملك كل شيء إلا النزاهة وكلمة الحق!
وأجزم أن وودي آلان لن يتنازل عن تسليط الضوء على قصة السيدة التي خاضت تجربة الهروب عبر القوارب المطاطية إلى بلاد الغرب، لترفع صور بشار الأسد في مسيرات تأييده في برلين..
ولا يختلف اثنان على أن وودي آلان سيتحدث في فيلمه "لو كان عن سوريا بدل نيويورك" عن الشاب الذي رفض أن يثور على النظام خوفاً من جبروته ليجد نفسه مرتعباً من السكوت عن تبجيله..
وكيف ستمر قصة ذلك الجندي الذي يحمل نفسه على عكاز بعد أن فقد قدميه متوسلاً على أبواب المؤسسات الحكومية لمساعدته وهو يسمع عبر ردهاتها الجزء المفضل في النشيد السوري "أبت أن تذلّ النفوس الكرام".
أو ذلك المسؤول الذي بحّ صوته على المنابر شاكياً التدخل الأجنبي بعد أن قام بإرسال بطاقة دعوة لهم مذيّلة بعبارة: "جنة الأطفال ملاجئهم".
أو المثقف الذي يطرق باب الغرب للتمثل بهم، وحين يعود إلى بلده يمضي وقته في البحث عما إذا كان ما يقدمه الغرب حلالاً أو حراماً!
وهل سيفوت وودي آلان قصة رجل الأعمال الذي يمسك في النهار مسبحة وهو يتعاقد مع المستثمرين، ليدعوهم في الليل إلى إحدى خيام سارية السواس لصرف أموالهم!
ومما لا شك فيه، سيدخل وودي آلان إلى مجالس السوريين، لينقل كاميرته بين فئة تطلق على كوارث التسع سنوات كلمة أزمة، وبين فئة تصر على أنها كانت ثورة، فيشعل بآخر المشهد الدرامي الخلاف بين الطرفين تاركين الطرف الثالث يهنئ في سرير من ريش النعام!
وأغلب الظن أن وودي آلان سيختم فيلمه عند مشهد طاولة عشاء تجمع حولها أكثر من عشرين سورياً يتجادلون فيما بينهم عن حماقة فلان لأنه اقترب من النار، فالنار برأيهم لا تقرب إلا المغفلين!
وأخيراً، لا أملك أيها المخرج العبقري وودي آلان إلا أن أعتذر منك على سوء الطالع الذي جعلك من سكان نيويورك، فقصصك النيويوركية، التي قد تعرض في هوليوود لا توازي بإخراجها ونصها وأبطالها قصصنا السورية التي لن يصل إليها حتى خيال البوليووديين، ولكن كما يقول المثل "ما حدا بياخد حظ التاني".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.