فلما صَدَقَ توقعي ابتسمتُ، لأن المرءَ يبتسم دائماً حين يصدق توقعه. هكذا عبَّر دوستويفسكي في روايته "المراهق" عن السعادة التي تنتاب المرء حينما يصدق في توقع حدث ما.
إنه البرهان الأكيد على حكمة المرء ودرايته بما لا يتضح أمام الآخرين. وفي عالم كرة القدم هذا الشعور قد يدفع المرء أن يرتحل لمدن لم يزُرها من قبل فقط، من أجل إثبات صدق توقعه. إنّه النصر الذي يحققه المرء دون أن يحرك ساكناً.
(ألم أقل لكم من قبل، لقد توقعت تألق هذا اللاعب منذ لمسته الأولى)
لا أدري كم مرة سمعت هذه الجملة بعد إحراز لاعب ما في بداية مسيرته لهدف أو تقديمه لمباراة جيدة، الجميع يحب الرهان، وفرسان الرهان في كرة القدم كثيرون.
قديماً ربما يسمع المهتم بأدقّ تفاصيل ناديه عن لاعب ما لديه موهبة كبيرة في صفوف الناشئين. يتم متابعة هذا اللاعب ورصد مميزاته، والنقاط التي يجب أن يعمل على تحسينها، ثم وبمجرد ظهوره في الفريق الأول يصرخ هذا المتابع: هذا اللاعب سيتألق كثيراً، إني أراهن على ذلك، فأنا أتابعه عن كثب منذ مدة.
لكن يبدو الآن أن الأدوار تتغير كثيراً إزاء تلك المسألة، فهناك أكثر من لاعب يتألق منذ لمسته الأولى بالفعل، دون رهان سابق عليه. ففي عصر تتغول فيه الميديا مثلما لم يحدث من قبل أصبح كل لاعب شاب معروفاً مسبقاً للمهتمين بكرة القدم، وأصبح أمراً عادياً أن يشارك أكثر من لاعب دون العشرين من عمرهم رفقة الفريق الأول.
جناح برشلونة الصغير، أنسو فاتي يتألق بألوان البلوغرانا، وهو في السادسة عشرة من عمره بالفعل. أما الغريم ريال مدريد فقد أحرز انتصاره الأخير في الدوري الإسباني بأقدام لاعبيه فينسوس جونيور ورودريغو، الأول في عامه التاسع عشر والثاني في الثامن عشر.
سبق هؤلاء أسماء لمعت في صغرها بالفعل، لكن لم يحققوا مسيرة مهنية ناجحة كما توقع الجميع، وهناك أسماء انتهت علاقتها بكرة القدم بشكل أو بآخر، قبل أن يُتموا الثلاثين من ربيع العمر.
ولذا أصبح التوقع الآن هو: هل يستمر هذا اللاعب في تألقه، أم يخبو نجمه سريعاً؟
هنا تحديداً يجب أن
يُطرح سؤال هام، ألا وهو: هل مشاركة لاعب ما في عمر صغير يؤثر على مسيرته أم لا؟
في قادم السطور سنحاول الإجابة عن هذا السؤال عبر استعراض أكثر من جانب؛ الجانب
البدني والنفسي وعقلية اللاعب ذاته.
تحدّث المدير الفني السابق للمنتخب الإنجليزي سام الاردايس عن فكرة استمرارية تألق راشفورد في المباريات. كان رد السيد سام صادماً نوعاً ما. أكد الاردايس على صعوبة استمرار راشفورد كلاعب كرة قدم بحلول عامه الثلاثين.
أوضح سام أن راشفورد سيعاني بشكل كبير مستقبلاً، بسبب الحمل الجسدي والعقلي الذي يستلزمه لعب كرة القدم بشكل احترافي في فريق كبير مثل مانشستر يونايتد. لن يتبقى لراشفورد بعد أن يلعب في مباريات فريقه ومنتخب إنجلترا سوى ثلاثة أسابيع للراحة فقط خلال العام.
دعنا لا ننس أن الفترة التحضيرية للموسم أصبحت مختلفة عن ذي قبل، فرحلات الفرق الكبرى لإقامة المعسكرات خارجياً ولعب البطولات الودية يتضمن مشاركة الفريق الأساسي بكامل نجومه لأسباب دعائية بحتة.
ولنعود لحديث الاردايس، فهو يؤكد أنه ببلوغ راشفورد عامه الـ25 حتى لو لم يتعرض لأي إصابات كبيرة، فمن المؤكد أنه على الجانب البدني سيعاني بشكل يعيق تطوره بشكل ملحوظ، وهو ما سيعجل من نهاية رحلته مع كرة القدم أو ربما الانتقال لمستوى أقل من الدوري الإنجليزي. ثم يضيف الاردايس أن الموسم الحالي هو أقل المواسم في الدوري الإنجليزي، من حيث مشاركة لاعبين يتخطى عمرهم الثلاثين.
دعنا نتناول مثالاً تَحقق بالفعل، حتى لا نحصر أنفسنا في خانة التوقع. يبدو الإنجليزي واين روني مثالاً قريباً لمسألة راشفورد. تألق روني رفقة فريق إيفرتون وهو في عامه السابع عشر، وخلال ما يقرب من العشرة أعوام أو يزيد قدَّم روني أداء خارقاً لرجل يتسم بالمجهود البدني الوفير. لكن روني فقد الكثير من بريقه قبل أن يُتم الثامنة والعشرين، وبحلول الثلاثين لم يعد روني هو نفس اللاعب بنفس المواصفات، بل أصبح نسخة باهتة كثيراً من واين روني المعروف للجميع.
ربما هذا يوضح الجانب البدني للاعب، لكن ماذا عن الجانب النفسي.
الجانب النفسي: فاتي الذي ربما تنقذه اللاماسيا من الغرور
"أعتقد أن اللعب في ملعب نو كامب للمرة الأولى سيكون مثيراً للإعجاب، لكن قد يكون الأمر مخيفاً للغاية".
هكذا أجابت عالمة النفس الرياضي الألمانية جوانا بيلز، حول سؤال ماذا ينتظر فاتي تحديداً بعد تألقه رفقة فريق برشلونة. ثم استطردت حول فكرة خروج فاتي من ملعب الكامب نو بعد استبداله واستقبال المشجعبن له بالتصفيق الضخم، وأن ذلك يؤدي بالطبع إلى المزيد من الثقة بالنفس، لكنها لم تستبعد أن يؤدي ذلك إلي ميل نحو الغرور، خاصة بعد انتقاله من اللعب رفقة فريق الشباب للعب بجوار ليونيل ميسي ولويس سواريز.
إلا أن تدرج فاتي خلال المواسم الأخيرة باللعب لفريق الشباب داخل النادي، ثم الانضمام لتدريبات الفريق الأول والمشاركة في المباريات بالفعل ربما ينقذ الموقف. يعرف فاتي ثقافة النادي والاستاد، وربما يكون قد أقام بالفعل علاقة مع بعض زملائه في الفريق. وتلك شروط مثالية لمشاركة لاعب ما في هذه السن الصغيرة.
وهذا ما فطن له المسؤولون عن كرة القدم في ألمانيا، ولذا وضعوا بعض القواعد اللازمة لمشاركة اللاعبين الشبان رفقة مباريات الفريق الأول، حيث يتعيَّن على أندية الدوري الألماني أن تتقدم بطلب إلى الاتحاد الألماني لكرة القدم، بالإضافة إلى موافقة والدي اللاعب، وبالإضافة أيضاً إلى موافقة الطبيب الرياضي وإقراره بأن هذا اللاعب المعني قادر على التحول إلى لاعب محترف، وأن يبلغ اللاعب 17 عاماً خلال الموسم المدرج خلاله كلاعب كرة قدم في الفريق الأول.
لنعود لحديث جوانا بيلز، التي تؤكد أنه من وجهة نظر علم النفس الرياضي لا توجد قيود معينة على العمر يمكن أن تساعد في تعزيز بداية جيدة للاعب كرة القدم، بينما يتعلق الأمر بالأفراد أنفسهم. خلال فترة البلوغ وسنوات المراهقة، يتعيّن على لاعبي كرة القدم الصغار إتقان العديد من التغييرات التنموية، وكيفية قضاء بعض الوقت بعيداً عن آبائهم. يجب علينا التأكد أيضاً من أنهم يتطورون على المستوى الشخصي، ويتمتعون بصحة جيدة جسدياً وعقلياً على حدٍّ سواء.
يبدو الأمر لطيفاً لفاتي، ما دام أنه يخرج من الملعب محتفياً به من قبل الآلاف، لكن ماذا سيفعل فاتي في حالة تسببه في الهزيمة، أو عندما تطلب منه الجماهير أكثر، ويتم مقارنة ما يقدمه مع ما يقدمه ميسي أو غريزمان. هنا ربما ننتقل إلى فكرة السمات الشخصية للاعب نفسه.
السمات الشخصية: دعنا نتعرَّف على أسماء ربما نساها البعض
"كرة القدم مرهقة، محاولة اللعب أمام أربعين ألفاً من مشجعي كرة القدم المجانين والذين يبقون سعداء أو تعساء طوال عطلة نهاية الأسبوع بأكملها اعتماداً على أدائك شيء مرهق".
هكذا وصف إسبن بوردسين حارس المرمى النرويجي المتقاعد كرة القدم بعد إعلان اعتزاله كرة القدم وهو في الخامسة والعشرين. لم يكن إسبن حارس مرمى استثنائياً، لكنه شارك في مباراته الأولى في الدوري الإنجليزي رفقة فريق توتنهام وهو في التاسعة عشرة. لم يستطع بوردسين أن يصبح الحارس الأول خلال الفرق التي لعب لها، وفي النهاية وجد الرجل أن الأمر أصبح مملاً وقرَّر الاعتزال.
هناك لاعب آخر ربما يتذكره البعض، وهو الياباني ناكاتا، لاعب روما السابق، الذي اعتزل في عامه التاسع والعشرين. ظهر ناكاتا في صفوف فريق شونان بلمار الياباني خلال عامه الثامن عشر فقط. حقق ناكاتا مسيرة مميزه للاعب كرة قدم ياباني، لكنه كان يبحث دوماً عن المتعة التي سحرته في كرة القدم. مع توالي المواسم فَقَد ناكاتا تلك المتعة، وأخذ الطابع الاحترافي يتغلب عليه رويداً رويداً، وانتهى به الأمر غير محب للعبة كرة القدم.
"يوماً بعد يوم أدركت أن كرة القدم أصبحت مجرد عمل تجاري كبير، شعرت أن الفريق كان يلعب من أجل المال فقط وليس من أجل المتعة، شعرت دائماً أن الفريق كان مثل عائلة كبيرة، لكنه توقف عن أن يكون هكذا. كنت حزيناً، لهذا السبب توقفت"
حسناً دعنا نتناول مثالاً أقرب كثيراً مما نتوقع؛ اللاعب المصري أحمد حسام ميدو. اعتزل ميدو وهو في الثلاثين فقط من عمره، بعد أن اكتسب بعض الوزن الزائد، الذي لم يستطع أن يتخلص منه خلال مواسمه الأخيرة مع كرة القدم. تحدَّث ميدو عن كونه أرهق خلال مواسمه المتتالية في أوروبا، كونه غادر إلى القارة العجوز وهو ابن السابعة عشرة فقط، ليجد نفسه ملتزماً بنمط كرة القدم والحياة الأوروبية، الذي يفرض على اللاعب الكثير من القيود.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.