كانت جريمة قتل جمال خاشقجي، كاتب الأعمدة المُشارك بصحيفة Washington Post، الواقعة الأكثر تأثيراً وإثارةً للجدل في القرن الحادي والعشرين، كما يُزعم، باستثناء هجمات الـ11 من سبتمبر/أيلول الإرهابية عام 2011. ولم يُشكِّل أيّ حدثٍ آخر، منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول، نفس القدر من التهديد الخطير على النظام العالمي أو يتحدَّى المواثيق التي يعتبرها العالم أمراً مفروغاً منه. والأمر المثير للقلق الشديد هو أنَّ المجتمع الدولي لا يزال جاهلاً بغالبية تفاصيل ما حدث، بعد مرور عامٍ كامل. والإجابة عن السؤال حول ما إذا كانت كافة جوانب مقتل الصحفي السعودي ستظهر إلى النور على الإطلاق؛ هي ما ستُحدِّد نوعية العالم الذي سيعيش فيه أطفالنا.
ففي أعقاب مقتل خاشقجي، تبنَّت إدارتي سياسة الشفافية. وعلى مدار العام الماضي، تعاونَت وكالات الاستخبارات وإنفاذ القانون التركية، إلى جانب الدبلوماسيين والمُدّعين العامين، عن كثب، مع نظرائها، واتَّخذت خطواتها لإبقاء الجمهور الوطني والعالمي مُطلعاً على آخر المستجدات. وشاركت السلطات التركية ما توصَّلت إليه مع المملكة العربية السعودية ودول أخرى، منها الولايات المتحدة وروسيا وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة. كما تعاونَّا مع فريق التحقيق الدولي الذي قادته أغنيس كالامارد، المقررة الأممية الخاصة بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء أو بإجراءات موجزة أو تعسُّفية. وفي النهاية، طالبنا المملكة العربية السعودية بتسليم قتَلَة خاشقجي إلى تركيا، حيث ارتكبوا جريمتهم.
وجاء الرد التركي على قتل كاتب الأعمدة المُشارك بصحيفة Washington Post بناءً على رغبتنا في دعم النظام الدولي القائم على القواعد. ومن هنا جاء رفضنا السماح بتصوير جريمة قتل خاشقجي على أنَّها نزاعٌ ثنائي بين تركيا والمملكة العربية السعودية. ولطالما نظرَت تركيا، ولا تزال تنظر، إلى المملكة باعتبارها دولةً صديقة وحليفة؛ لذا فإنَّ إدارتي فرَّقت بوضوحٍ لا لبس فيه بين البلطجية الذين قتلوا خاشقجي، وبين الملك سلمان وأتباعه المخلصين.
لكن صداقتنا الطويلة لا تستوجب منَّا بالضرورة أن نبقى صامتين؛ بل على العكس تماماً، إذ يقول المثل التركي: "الحقائق المُرّة تدُلُّ على الصديق الحقيقي".
ولا شكَّ أنَّ فرقة الاغتيال المُكوَّنة من 15 فرداً، التي قتلت خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول وقطَّعت جسده إلى أشلاء، كانت تخدم مصالح دولة ظل داخل حكومة المملكة – وليس الدولة أو الشعب السعودي. وفي حال كنا نعتقد عكس ذلك؛ لتعاملنا مع هذه الجريمة النكراء بوصفها مشكلةً ثنائيةً دون شك. لكنَّنا نواصل النظر إلى ما حدث باعتباره مسألةً تتعلَّق بالعدالة وليس السياسة، ونُؤكِّد أنَّ المحاكم الوطنية والدولية يُمكنها تحقيق العدالة بمفردها.
لقد مثَّل اغتيال خاشقجي مأساة، لكنه كان أيضاً بمثابة انتهاكٍ صارخٍ للحصانة الدبلوماسية. وإنَّها لسابقةٌ خطيرة هي الأولى من نوعها أن يستطيع القَتَلة السفر باستخدام جوازات سفرٍ دبلوماسية، ويُحوِّلوا مبنى دبلوماسياً إلى مسرح جريمة، وأن يبدو وكأنَّ أكبر دبلوماسي سعودي في إسطنبول قد ساعدهم في التستُّر على الجريمة. والأخطر على الأغلب هو رفاهية الإفلات من العقاب، التي يبدو أنَّ بعض القتلة يتمتَّعون بها داخل المملكة.
ولا يخفى على أحدٍ أنَّ هناك العديد من التساؤلات حول إجراءات المُحاكمة داخل المملكة العربية السعودية. وحقيقة الغياب شبه التام للشفافية المُحيطة بالمحاكمة، وعدم إطلاع الرأي العام على جلسات الاستماع، والمزاعم بأنَّ بعض قتلة خاشقجي يتمتَّعون بحريةٍ فعلية هي أمورٌ تفشل في تلبية توقُّعات المجتمع الدولي وتُشوِّه صورة السعودية – وهو أمرٌ لا تُحبِّذه تركيا، بوصفها دولةً صديقة وحليفة للمملكة.
وهناك جهودٌ جارية لتبرير غياب الشفافية بحُجة حماية الأمن القومي. وهناك فارقٌ كبير بين بذل كل ما بوسع المرء لتقديم الإرهابيين إلى العدالة، وبين ارتكاب جريمة القتل العمد بسبب آراء الضحية السياسية؛ إذ إنَّ اختطاف أدولف أيخمان، مُجرم الحرب النازي، مثلاً كان تصرُّفاً شرعياً تماماً. ولكن سيكون من السخيف اقتراح أنَّ قتل خاشقجي خدم قضية العدالة بأي وسيلةٍ أو طريقةٍ أو شكل.
وبالمضي قُدُماً، تتعهَّد تركيا بمواصلة جهودها لتسليط الضوء على مقتل خاشقجي، وسنُواصل طرح نفس الأسئلة التي أثرتها في مقالي الافتتاحي لهذه الصحيفة العام الماضي: أين رفات خاشقجي؟ ومَن الذي وقَّع مذكرة موت الصحفي السعودي؟ ومَن الذي أرسل 15 قاتلاً، بينهم خبيرٌ في الأدلة الجنائية، على متن طائرتين إلى إسطنبول؟
ومن مصلحتنا، ومصلحة الإنسانية جمعاء، أن نضمن عدم ارتكاب مثل هذه الجريمة مرةً أخرى في أي مكان. ومكافحة الإفلات من العقاب هي أفضل وسيلةٍ لتحقيق هذا الهدف. نحن مدينون بذلك لعائلة خاشقجي.
– هذا الموضوع مُترجم عن صحيفة Washington Post الأمريكية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.