استيقظنا جميعاً على حادثة مفزعة.. نعم مفزعة بكل ما تحمله الكلمة من معان..
ماذا تقولون؟
جدة تعذب حفيدتها!
تحرقها!
وخالها يغتصبها!
ماذا تقولون؟
الطفلة عمرها 5 سنوات!
بتر ساق.. حروق.. فشل كلوي.. استئصال رحم!
يا إلهي ما الذي يحدث في تلك البقعة من الأرض!
ماتت "جنى".. غادرت إلى جوار الرحمن لتتنعم في جنته وتستريح.
غادرت "جنى" وتركتنا يعتصر الألم قلوبنا، بعد أن وضعتنا جميعاً في مواجهة قاسية مع أنفسنا.
لا أخفي عليكم قولاً، لقد تحاشيت كثيراً أن أتحدث في تلك الحادثة، أو أكتب عنها شيئاً لأيام.. فلم أكن أقوى على تحمل مشاعر الألم والعجز والخذلان الحادة المصاحبة لتلك الحادثة المروّعة.
وعندما طُلِب مني أن أفعل، راجعت قراري علّ الله يجري على قلمي بعض الفائدة.
أبنائي و"ياء" الملكية:
أذكر منذ ما يقرب من ثمانية أعوام؛ بعد إنجابي أول طفلة من أبنائي الثلاثة "حفظهم الله"، جاء أحد الأقارب يهنئني قائلاً لي: (مبروك.. دي بنتك.. بتاعتك)!
رفضت الجملة قائلة بوضوح (لا.. هي ليست "بتاعتي".. ولا أنا "بتاعتها")
كثيراً ما كنت أسمع تلك الجملة منذ صغري تقال للآباء على أبنائهم "دول بتوعك". وكنت أتعجب منها، وأرفضها بشدة.
تلك القناعة بأن الآباء ما إن ينجبوا حتى يصبح هؤلاء الأطفال الصغار ملكاً لهم، هي قناعة مرضية مؤذية. تحلل للآباء بمرور الوقت التصرف كما يحلو لهم "تحت مزمع أنهم يتصرفون فيما يملكون". حتى وإن لم ينطقوها هكذا، لكن يفعلونها هكذا.
ذلك المفهوم الخاطئ بأن أولادنا ملك لنا، علينا التخلي عنه. علينا قتله داخل نفوسنا ومجتمعاتنا. علينا رفض سماعه، وقوله، أو حتى التلميح إليه.
تلك القناعة التي بررت بها "جدة مريضة" لنفسها أن تحرق طفلة صغيرة، لتعلمها التوقف عن التبول اللاإرادي "كما زعمت"..
تلك القناعة التي سولت لأب آخر أن يعذب طفلته التي لم تكمل عامين، ليعلمها السير..
تلك القناعة التي لا تردع أيادي بعضنا، عن أن تنهال على وجوه الأبناء ضرباً ولطماً بحجة تعليمهم..
تلك القناعة التي تحرك بعضنا لتفريغ شحنات من الغضب والألم والضغوط في وجوه ونفوس الأطفال، صراخاً وتهديداً بهدف تربيتهم..
وفي حقيقة الأمر نحن من نحتاج إلى إعادة تربية، وإعادة تأهيل.
لا أستثني نفسي، ولا أقصد إساءة..
التربية هي التعليم والتدريب. ونحن حقاً بحاجة إلى التعليم.
ولا عيب في هذا، فنحن مأمورون (أن نطلب العلم من المهد على اللحد).
نحتاج إلى تعلم مهارات إدارة الغضب، مهارات التعاطف والرحمة، مهارات الرفق، مهارات التواصل السوي، مهارات حل المشكلات التي تواجهنا، مهارات إدارة الضغوط.
نحتاج إلى تعلم مهارات الحياة…
مسؤوليتنا تجاه جنى:
نعم مسؤوليتنا..
"جنى" تركتنا في مواجهة صادمة مع أنفسنا.
عرّت عن أنفسنا مبررات (الضغوط، وقلة الوعي، وكثرة المسؤوليات، ومثيلاتها)، والتي نمنحها لأنفسنا لنسكن صوت ضميرنا عندما يسألنا عن قسوتنا على الأبناء.
وتركتنا بالكثير من مشاعر الخزي والعار من بعض ما نفعله تحت مسمى (تربية الأبناء)
ولكن..
هل انتهت القصة إلى هنا؟
لا والله
محاسبة كل المشتركين في تلك الحادثة المفجعة أمر لا بديل عنه، وسنظل جميعاً نتحدث فيها كقضية رأي عام مشتعلة لا تهدأ حتى يأخذ الجناة المجرمون أقصى عقاب يمكن أن يُوقع عليهم.
ولكن ماذا عن بيوتنا؟
ماذا عن أبنائنا؟
هل يمكن أن تكون "جنى" ملاكاً طاهراً قد أرسله الله في تلك البقعة من الأرض ليعلّمنا.. ليوقظنا من غفلتنا في حق أبنائنا.
كلنا مدانون..
حتى نفيق ونتحرك بخطوات واضحة محددة لا بديل عنها في طريق تعلّم كيفية عيش حياة صحية سوية.. نحترم فيها حقوق الآخرين ونعلم ما هي حدودنا ولا نتجاوزها.
وكيف نربي أبناءنا بطرق صحية سليمة، وما هي حقوق تلك الكائنات الرقيقة التي هي "أمانة" لدينا لا ملك لنا..
نعم يمكن أن تكون تلك الحادثة -على بشاعتها- سبباً في طفرة حقيقية في تربية الأبناء وكيفية التعامل معهم.
مجتمعاتنا مع كل ما أصابها من تشوهات فكرية ونفسية وعاطفية، أصبحت غير مؤهلة لتربية أطفال صغار والائتمان على حياتهم، دون تعلّم ودراسة حقيقية وليس فقط قراءة الإرشادات العامة.
بل دراسة وتدريب، ثم يتبعه قراءة، واستشارة أهل الاختصاص في كل ما يطرأ من مشاكل أمامنا معهم.
نحن عندما نشتري (هاتفاً جديداً) نقضي ساعات نقرأ أوراق التعليمات الخاصة به بكل عناية، لنعرف ما علينا فعله وما لا نفعله، ومتى نفعل ذلك ومتى لا، كيف نستخدمه بشكل صحيح يحافظ عليه.
هل هو آمن تحت الماء؟ هل يمكن تعرضه للحرارة؟
وإذا حدث به عطل فلمن نلجأ وممن نطلب المساعدة.
والأولى بنا أن نتعلم كل المعلومات والتفاصيل الخاصة برعاية الأمانات التي سلمنا الله إياها لنصونها، ونراعيها بحق.
ويمكن أن يكون هذا هو واجب كل فرد فينا ومسؤوليته التي يؤديها لروح "جنى" الملاك الطاهر رحمها الله.
هذا على المستوى الشخصي، فماذا عن المستوى المجتمعي؟
على مستوى أعم، فنحن علينا دور هام. علينا الإبلاغ عن أي حالة عنف ضد طفل، نشاهدها أو نعرف عنها.
علينا ألا نقف مكتوفي الأيدي ممصمصي الشفاه، ونفكر في داخلنا أن هؤلاء أهل الطفل ويربونه..
لا!
علينا أن نبلغ عن أي حالة إساءة أو عنف تحدث مع أي طفل. فأحياناً يكون القانون هو الرادع الفعال لبعض الآباء الذين لا يستطيعون التحكم في انفعالاتهم.
لا بأس.. فلا يلتزم كل البشر بالصواب حباً في فعله، ولكن هناك من يلتزم به خوفاً من عاقبة عدم فعله. ولهذا خلق الله في الكون سنتي (الترغيب – والترهيب)
والمجلس القومي للأمومة والطفولة سهّل علينا تلك المهمة بتخصيص (خط نجدة الطفل) للتواصل معهم في مثل تلك الحالات.
رقمه 16000
فليكن هذا رادعاً لنا جميعاً للتغير الحقيقي مع أبنائنا، ولمراعاة حقوقهم كاملة دون أي تبرير لأي انفلات نقوم به. ومن لا يستطيع التغير، عليه الدراسة والتعلم. ومن لم تصلح معه الدراسة، عليه بطلب المساعدة من الاستشاريين والمدربين تبعاً لما يفتقده من مهارات.
وكلما انتشر هذا الوعي قلّت الإساءات وحالات التعنيف التي تصيب الأطفال في مجتمعاتنا دون أي ذنب لهم سوى أنهم أطفال.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.