يؤثر الاكتئاب على أكثر من 300 مليون شخص حول العالم
بعد رحلة علاجي من الاكتئاب شعرت
كأنني كنت أرى الحياة من خلال شاشة تلفاز أبيض وأسود، ثم صرتُ أراها من خلال شاشة
ملونة، كأن الدنيا كانت مظلمة وأضاءت، قبل عامين مررتُ بظروف صعبة، تلاها دخولي في
حالة نفسية سيئة، شُخصت حينها باكتئاب، مَن تعرَّف عليَّ في تلك الفترة فلن يتذكر
أكثر من أنني نكدية،
أخت لا تصل أخواتها، وصديقة غير وفيّة، لا تسأل، مغلقة على نفسها، لا تخرج، ولا
تتصل بأحد، ولا تردّ على الهاتف.
أما أنا فكنتُ أشعرُ
أنني أحمل أطناناً من الهموم والمسؤوليات على كتفي، وفي الوقت ذاته كان عليَّ أن
أبقى واقفة صامدة، لا أشتكي، بل عليَّ أن أُشعر مَن حولي، وخصوصاً أطفالي بأني
بخير.
تتجمَّد الدموع في
عينيك، ترجوها أن تسيل فتأبى، ترجو منها أن تسيل ربما تخفف جزءاً من ذلك الضغط، أو
تترك مكاناً لغيرها، فترفض، أجلس أمام الطبيب، يحاول بشتّى الطرق أن يجعلني أبكي
فلا يستطيع، في الوقت نفسه لا أستطيع الضحك، لا شيء يُضحكني أو يجعلني أبتسم. لا
أهتم بأحد، ولا لأحد، ولا مَن وصلني ولا من جفاني، لم يعد مهماً درجة لون الطرحة
التي أرتديها أن يكون نفس درجة البلوزة.
لم أرغب في الذهاب
لشراء أي شيء جديد، توفيت اثنتان من صديقاتي القدامى في أشهر متتالية في تلك
الفترة، لم أبكهما إلا بعد فترة طويلة، لم أدرك أصلاً معنى الفقد أو أنهما رحلتا
إلى دار أخرى، وأكمل يومي كالروبوت، فقدت شهيتي للطعام تماماً، أعيش على القهوة
وبعض البسكويت، خسرت وزناً كثيراً، حتى صرتُ شبح أُم، جفاني النوم، فصرتُ أشعر
بإجهاد شديد.
تقول لي الطبيبة إنني دخلت في حالة من الانتباه واليقظة الدائمة نتيجة الضغط المستمر، يلجم الحزن المسبب وغير المسبب لساني لم أعد أستطيع الكلام إلا بحدود، فقط من أجل أولادي، ثلاثة أشهر لم أتحدث إلى غريب، أو إلى أي شخص دون حاجة، ذهبوا جميعاً غضبي، أولهم عائلتي، دون أن يسأل أحد لماذا اختفيت! تملكتني رغبة شديدة في الفناء، ليست رغبة في الموت ذاته أو الانتحار، فالموت له ما بعده من حساب، رغبة الفناء هذه كانت فقط لذلك الألم الذي يعصر قلبي دون توقف، لا أحصي عدد المرات التي تمنيتُ أن يدفعني أحدهم خطأ أمام عربة المترو فينتهي كل شيء، دون أن أرتكب جرم الانتحار، أو عدد المرات التي نظرت فيها للمسافة من الدور السادس للأرض آملة أن ينهار سور الشرفة وينتهي هذا الألم ويقطعني صوت ابني "ماما لا تتركينا وحدنا" .
من يعلم ما أمر به
ينصحني أن أعود لله، وأن ما أنا فيه هو من ضعف الإيمان، وأن ذنوبي قد أغرقتني
فأهمَّت قلبي وأثقلته، يقول بعضهم هذا ما فعلته بك الحياة في بلاد الغرب يا أسماء
ولا حول ولا قوة إلا بالله، يرسلون رسائل النصح والتذكير بالله، لا يعلمون كم كنت
أجاهد حتى أقف على سجادة الصلاة لأصلي الصلاة المفروضة، حتى لا تنقطع صلتي بالله،
لا يعلم أحدهم التيه الذي دخلت فيه، ولا الظلام الذي ملأ داخلي.
بعدما تخطَّيت تلك الفترة الصعبة، عذرت جهلهم، ففي ثقافتنا العربية يرتبط المرض النفسي بضعف الإيمان، بل يربطه بعضهم بالأرواح الشريرة وأعمال السحر، فماذا تعرف عن الاكتئاب، ما هي أعراضه، وأنواعه، وكيف يمكنك مساعدة شخص قريب منك مصاب بالاكتئاب؟
الاكتئاب من العلل الشائعة على مستوى العالم برمته، حيث يؤثر على أكثر من 300 مليون شخص. ويختلف الاكتئاب عن التقلبات المزاجية العادية والانفعالات العاطفية التي لا تدوم طويلاً، كاستجابة لتحديات الحياة اليومية. وقد يصبح الاكتئاب حالة صحية خطيرة، لاسيما عندما يكون طويل الأمد وبدرجة معتدلة أو شديدة. ويمكن للاكتئاب أن يسبب معاناة كبيرة للشخص المصاب به، وتردّي أدائه في العمل أو في المدرسة أو في الأسرة. ويمكنه أن يفضي في أسوأ حالاته إلى الانتحار، وفي كل عام يموت ما يقارب 800 ألف شخص من جراء الانتحار، الذي يمثل ثاني سبب رئيسي للوفيات بين الفئة العمرية 15-29 عاماً. [1] وتزيد نسبة الإصابة بين النساء مقارنة بالرجال.
الاكتئاب هو أكثر من مجرد شعور بالحزن، فالأشخاص المصابون بالاكتئاب يفقدون الشعور بالاهتمام والمتعة بأنشطتهم اليومية الطبيعية، مع زيادة أو نقص ملحوظ في الوزن، واضطرابات شديدة في عدد ساعات النوم، إما بالزيادة أو الأرق، يصاحبه شعور بالإرهاق وقلة في التركيز، وفقدان الطاقة، والشعور بعدم تقدير الذات والشعور المبالغ فيه بالذنب، والتفكير في إيذاء النفس أو الانتحار.
هناك أسباب عدة قد تزيد من احتمالية الإصابة بالاكتئاب، منها التعرض لعنف جسمي أو للابتزاز الجنسي أو صدمة عاطفية، بعض الأدوية قد تسبب الاكتئاب منها مضادات الفيروسات والكورتيزون، أيضاً مرضى الأمراض المزمنة والخطيرة احتمالية إصابتهم أكبر من غيرهم، التعرض لتغيّرات حياتية مثل الانتقال من بلد لآخر، أو فقد وظيفة أو أحد الأقرباء. يرجح بعض العلماء أن هناك عوامل بيولوجية تزيد من احتمالية إصابة شخص دون الآخر [2].
اختبار الاكتئاب
هل هناك أنواع من
الاكتئاب وما الفرق بينها؟
اضطراب الاكتئاب المتكرر:
ينطوي هذا الاضطراب على نوبات اكتئاب متكررة، وخلال هذه النوبات يعاني الشخص من اعتلال الحالة المزاجية، وعدم الاهتمام والتمتع بالأشياء، وتدني الطاقة مما يؤدي إلى قلة النشاط لمدة أسبوعين على الأقل. ويعاني كثير ممن يمرون بحالات اكتئاب كذلك من أعراض القلق، واضطراب النوم والشهية، وقد يكون لديهم شعور بالذنب، أو قلة تقدير الذات وضعف التركيز، بل وحتى أعراض من دون تفسير طبي.
وبناء على عدد الأعراض وشدتها، يمكن تصنيف نوبة الاكتئاب بأنها طفيفة، أو متوسطة، أو حادة. وقد يجد من يعاني من نوبات اكتئاب طفيفة بعض الصعوبة في الاستمرار في العمل العادي والأنشطة الاجتماعية، ولكنه قد لا يتوقف عن العمل تماماً. وخلال نوبة الاكتئاب الحادة، فمن غير المرجح تماماً أن يتمكن من يعانون الاكتئاب من مواصلة الأنشطة الاجتماعية، أو العمل، أو الأنشطة المنزلية، إلا بقدر محدود للغاية.
الاضطراب الوجداني الثنائي القطب
الذي كان يُعرف سابقاً بالاكتئاب
الهوسي، وعادةً ما يتألف هذا النوع من
الاكتئاب من نوبات هوس واكتئاب تفصلها فترات من المزاج الطبيعي. وتنطوي نوبات
الهوس على الروح المعنوية العالية أو المزاج العصبي، والنشاط الزائد، والتحدث
بسرعة، وتضخم تقدير الذات، وقلة الحاجة إلى النوم.
عندما تشعر
بالاكتئاب قد تشعر بالحزن، أو اليأس وتفقد الاهتمام أو المتعة في معظم الأنشطة.
عندما تتحول حالتك المزاجية إلى هوس أو هوس خفيف (أقل تطرفاً من هوس)، فقد تشعر
بالنشوة، أو الطاقة الكاملة أو الانفعال غير العادي. يمكن أن تؤثر تقلبات الحالة
المزاجية على النوم، والطاقة، والنشاط، والحكم على الأشياء والسلوك، وأيضاً القدرة
على التفكير بوضوح.
وبشكل عام هناك أشخاص أكثر عرضة للإصابة بالاضطراب الثنائي القطب، وذلك إما 1- لعوامل بيولوجية: كما في حالات إصابة أقرباء من الدرجة الأولى، أو 2- لعوامل جينية.
لا يدرك مرضى الاكتئاب ثنائي القطب عادة أثر التغير المزاجي الحاد على المحيطين بهم، ومدى الأثر السلبي والاضطراب النفسي الذي يتعرّض له المحيطون بهم. غالباً ما تتبع تلك النوبات التي يشعر بها المريض بحالة معنوية عالية، وقدرة على إنتاج فترات من الإحباط الشديد والمزاج السيئ، وبينما يتقلب بين حالتين مختلفتين من السعادة البالغة إلى الحزن الشديد يتأذى المحيطون به والأقرباء.
هناك تصنيفات مختلفة من الاكتئاب ثنائي القطب، وكل تصنيف له خطته العلاجية، ولكن في حالة عدم الذهاب لتلقي العلاج أو إهمال الدواء فإن المريض يتعرَّض لخسارة علاقته بأصدقائه وأقاربه، وقد يتورَّط في مشاكل مالية، أو ينتهي به الأمر للانتحار. [3]
اكتئاب ما بعد الولادة
اكتئاب ما بعد
الولادة يصيب ما بين 10-15 سيدة لكل 100 سيدة بعد الولادة، تشبه أعراضه أعراض
الاكتئاب المعروف من تغير في المزاج وشعور بالحزن يمتد لأكثر من أسبوعين، فتصبح
المهام البسيطة في إدارة المنزل صعبة ومعقَّدة.
في بعض الأوقات
يكون هناك سبب مادي لهذا الاكتئاب، لكن يسيطر على الأم مشاعر الشعور بالذنب
والإحباط لعدم الفرح بمجيء هذا الطفل.
قد تبدأ هذه
الأعراض بالظهور بعد شهر أو شهرين من الولادة، وقد تبدأ بعد عدة أشهر، ولكن ثلث
النساء اللاتي كانوا عرضة لاكتئاب ما بعد الولادة بدأت معهم الأعراض أثناء الحمل.
تشعر الأم بأنها ليست سعيدة أو يكون مزاجها سيئاً معظم أوقات اليوم، خصوصاً في الصباح أو المساء، وأنها متوترة ومجهدة، وقد تشعر بالغضب تجاه زوجها أو تجاه أحد أطفالها، على الرغم من إرهاقها الشديد لا تستطيع الاستغراق في النوم ليلاً حتى لو كان طفلها نائماً، بعض النساء ينسين تناول الطعام أو يفقدن الشهية، في حين تزداد شهية أخريات ويزداد شعورهن السيئ تجاه أنفسهن بسبب زيادة الوزن. تفقد الأم شعور المتعة من الأنشطة التي كانت تسعدها من قبل، وتزهد في العلاقة الزوجية، ثم تبدأ المشاعر السلبية بالسيطرة عليها، أنها ليست أُماً جيدة، وتبدأ بفقدان الثقة في نفسها، بعضهن يتولد لديهن شعور بالقلق الزائد تجاه الطفل، هل يا ترى وزنه طبيعي؟ هل حرارته مرتفعة، لقد تعرَّق كثيراً، يبدو نبضه سريعاً؟
وتسيطر عليها تلك
الهواجس، حتى إن بعض النساء يسمعن أصواتاً غير موجودة، وهذا يستدعي طلباً عاجلاً
للمساعدة، أحياناً تتجنب الأم لقاء الآخرين، وقد تبدأ في التفكير في
الانتحار.
ما هي أسباب اكتئاب ما بعد الولادة؟ بعض الأمهات يكون لديهن تاريخ مرضي للإصابة بالاكتئاب، سواء تم علاجه أم لا، البعض يشعرن بمسؤولية كبيرة ويتطلعن إلى دعم أكثر من الزوج وغياب هذا الدعم يسبب لهن شعور الإحباط، أيضاً تعرض الأم للعنف المنزلي قبل الولادة أو الزواج قد يؤدي إلى اكتئاب ما بعد الولادة. بعض الأمراض العضوية أو نقص بعض الهرمونات أو الفيتامينات مثل فيتامين B12 قد يؤدي لهذا النوع من الاكتئاب. وقد لا يكون هناك أي سبب عضوي أو نفسي، وأيضاً وجود تلك العوامل لا يعني بالضرورة أن الأم ستصاب باكتئاب ما بعد الولادة. [4]
إذا كان لديك صديق
أو قريب مصاباً بالاكتئاب، فبالطبع يمكنك مساعدته لمعرفتك بأعراض الاكتئاب،
ومساعدته على الذهاب لطبيب أو متخصص، وطلب المساعدة هو المساعدة الأولى التي يمكنك
تقديمها، فبعض الناس لا يشعرون أنهم يمرون باكتئاب، ويظنون أنه مجرد شعور بالحزن،
وبالتالي يتأخرون في العلاج، وتزداد حالتهم سوءاً، كونك قريباً منه يجعلك تلاحظ
التغيرات التي تحدث ومدتها، شعوره أنك تتقبله وتحبه في جميع حالاته يعينه أيضاً
على تخطي الأمر والاستمرار في العلاج، فكثير من مرضى الاكتئاب يتجنَّبون الذهاب
للطبيب، بسبب خوفهم من نظرة الناس إليهم، ويعيد إليه ثقته في نفسه، يمكنك أيضاً
اصطحابه إلى الطبيب المعالج، وسرد ملاحظاتك عن تغيره السلوكي والمزاجي، ومتابعته
في الانتظام في تناول أدويته إذا تطلب الأمر علاجاً دوائياً، يمكنكما الذهاب معاً
لممارسة رياضة ما، أو الخروج في نزهة. يفيده أيضاً أن تتحمل عنه بعض مسؤولياته في
البيت إذا كان هذا ممكناً من وقت لآخر.
القاعدة الأهم ألَّا تكون حكماً ولا ناقداً ولا مرشداً دينياً له، فهو لا يحتاج منك إلا الشعور بالقبول، وعلاقة آمنة تحترم ضعفه وتقبله مُظلماً كما هو. أيضاً يمكنك ملاحظة إذا كانت لديه أفكار تجاه التخلص من حياته، أو حديثه المتكرر عن الموت، وتحميه من نفسه. [5]
أثناء علاجي كانت صديقاتي خير عون، رغم بعد المسافة بيننا، فكل منا تعيش في قارة مختلفة، تسجل إحداهن رسائل يومية تحكي لي عن يومها، وأسجل لها فتلتقط من كلماتي كل ما يمكن أن يكون بداية خيط لأرى النور، صديقة أخرى على بُعدها أيضاً كانت تحاول أن تشغلني بطلب المساعدة لآخرين، كنت أشعر بعد كل مرة أنجز فيها مهمة صغيرة أنني مازلت ذات فائدة لأحدهم، بينما تفاجئني صديقة أخرى بهدية مفاجئة تصلني بطرد، يمكن لكل منا أن يكون نوراً لأحدهم، لا يهم بعد المسافة، يكفي أن تكون قريباً لقلبه. لكن قبل ذلك عليك أن تمارس حياتك بشكل طبيعي ذهابك إلى عملك وعلاقتك بالآخرين، وممارسة هواياتك ورياضتك المفضلة والخروج للتنزه، فكلما حافظت على اتزانك النفسي استطعت مساعدته بشكل أفضل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
تقدر شركة إنتغرال ميديا الاستشارية المحدودة خصوصيتك وتعلم جيدًا كم هي مهمة لك وأنك تهتم بكيفية استخدام
بياناتك الشخصية.
نحترم ونقدّر خصوصية جميع من يزورون موقع عربي بوست، ولا نجمع أو نستخدم بياناتك الشخصية إلا على النحو الموضح في
سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط، ولأغراض تحسين المحتوى المقدم وتخصيصه بما يناسب كل زائر؛ بما يضمن تجربة
إيجابية في كل مرة تتصفح موقعنا.
تعتبر موافقتك على سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط أمرًا واقعًا بمجرد استمرار استخدامك موقعنا. يمكنكم
الموافقة على جميع أغراض ملفات الارتباط بالأسفل، وكذلك يمكنكم تخصيص الأغراض والبيانات التي يتم جمعها. يرجى
العلم بأنه حال تعطيل كافة الأغراض، قد تصبح بعض مزايا أو خصائص الموقع غير متاحة أو لا تعمل بشكل صحيح.