تعيش المنطقة العربية على إيقاع أحداثٍ مسرعةٍ تقع أمامنا يوميا، وبتنا نتابعها على الهواء مباشرة. أحداث تؤثث نشرات الأخبار، توحي بوجود مخاضٍ كبير ينبئ بتحوّل كبير وعميق يحدث داخل مجتمعاتنا. تسارع هذه الأحداث وتزامنها يجعلانا لا نستوعبها بسرعة، وأحيانا كثيرة لا نلتفت إلى أهميتها، أو على الأقل لا نوليها الأهمية الكبيرة التي تستحق. وفي الماضي، كان حدث واحد أقل شأنا مما يحدث اليوم يشد إليه الانتباه، ويجعل الناس تؤرّخ به رتابتهم اليومية، عندما يصبح فاصلا بين زمنين لما قبله وما بعده، في إشارة إلى التحوّل، حتى لو كان طفيفا، الذي أحدثه في حياتهم وداخل مجتمعاتهم.
ما يجمع بين هذه الأحداث أنها لا تقع في بقعة واحدة، وإنما في عدة مناطق داخل الرقعة الجغرافية العربية الواسعة من المحيط إلى الخليج، والخيط الرابط بينها أنها كلها أحداث تحمل في طياتها بشائر التحول العميق المقبل. نحن أمام صعود وعيٍ شعبيٍّ جديد يصنع التغيير على الهواء مباشرة، ويدفع المنطقة نحو تغيير جذري، قليل منا يستطيع مواكبته والقلة القليلة هي التي تستوعب بُعده وتستنبط كنهه. تغيير في بنيات التفكير القديمة، وفي طريقة العمل التقليدية، وفي ممارسة السياسة والتعاطي معها بشكلٍ يختلف عن الأساليب التي تعوّدنا عليها، أو على الأقل، تعوّدتها الأجيال القديمة التي عاشت ردحا من الزمن على إيقاع الشعارات الرنانة والخطابات الإيديولوجية الفارغة المنفصلة عن الواقع.
نحن أمام أحداث كبيرة تتوالى أمامنا مسرعة، وتقع في الوقت نفسه، في أكثر من بقعة عربية، في الجزائر وتونس والسودان ومصر ولبنان وعلى أرض فلسطين المحتلة. ولأول مرة في تاريخالمنطقة العربية، يقع هذا الكم من الأحداث التي يمكن وصفها "مٌفرحة"، لأنها تُنبئ بما هو آتٍ. وبالتأكيد لن تكون أسوأ من الفترة التي سيطرت فيها العقلية البائسة للثورات المضادّة على تفكير الشعوب ووعيها في السنوات السبع الماضية.
والبداية من الجزائر التي تحدث فيها واحدة من أكبر المحاكمات التي لم يسبق أن شهدتها أي دولة عربية. محاكمة يصعب وصفها بـ"محاكمة القرن"، لأن هذا الوصف أصبح مبتذلا لكثرة ما استعمل في وصف محاكمات أقل شأنا مما يحدث اليوم في الجزائر. من كان يتوقع، حتى الأمس القريب، أن يقف في قفص الاتهام شقيق رئيس عربي ما زال على قيد الحياة، ورئيس أكبر وأقوى جهاز مخابرات في البلد، ووزير دفاع سابق كان الحاكم الآمر في عهده. وفي الوقت نفسه، يقبع داخل السجن الذي يعتقل فيه هؤلاء رئيسان سابقان للحكومة ووزراء من بينهم وزير عدل سابق ورجال أعمال نافذون؟ لا يتعلق الأمر فقط بتصفية حسابات سياسية بين أجنحة السلطة في بلدٍ يعيش على إيقاع التظاهر منذ زهاء ثمانية أشهر، وإنما هو نتيجة تحوّل عميق في وعي الشعب الجزائري الذي يرفض العودة إلى بيوته، من دون تحقيق التغيير الذي خرج ينشده ذات يوم من شهر فبراير/ شباط الماضي.
وغير بعيد عن الجزائر، فاجأت نتائج الانتخابات التونسية المتتبعين للشأن السياسي في هذا البلد، عندما أظهرت أن الوعي الشعبي في تونس انتقل إلى مرحلة التعبير عن نفسه عبر صناديق الاقتراع، منتقلا من مرحلة الاحتجاج في الشارع إلى مرحلة التظاهر الصامت داخل صناديق الاقتراع التي استعملتها دكتاتورياتٌ عربيةٌ كثيرة في السابق، لتزوير إرادة شعوبها والسيطرة على مقدّرات دولها.
وفي السودان، تحدث ثورة هادئة بعد الهبّة الشعبية الكبيرة التي أطاحت رأس النظام السابق، وفيما يحاكم الديكتاتور الذي حكم البلاد ثلاثة عقود، أمرت الحكومة المدنية المدعومة من الحراك الشعبي بفتح تحقيقات حقيقية في الجرائم التي ارتكبت خلال فترة الانتفاضة الشعبية، ما قد يسقط كثيرين من رموز النظام السابق الذين يحاولون تغيير جلدهم للتماهي مع حالة التحول الكبير الذي يشهده البلد.
الحدث الكبير الذي لا تخطئه العين هو ما يقع في مصر التي نجح شعبها من جديد في تكسير حاجز الخوف، والخروج من حالة التنويم المغناطيسي الجماعي الذي حاول النظام، بكل أدواته، أن يخضع له وعي شعب بكامله، فالحدث المصري، على الرغم من بساطته، ستكون تداعياته كبيرة، بحكم ما تمثله مصر بثقلها وتاريخها وموقعها داخل الجغرافيا العربية، وما ترمز إليه في الوعي الجمعي العربي.
والحدث الكبير الآخر هو الذي صنعه حزب الله في لبنان، عندما أرسى قواعد اشتباك جديدة مع أقوى جيش في المنطقة، وفرض بقدراته المتواضعة توازن رعبٍ على الجيش الذي كان يوصف، حتى زمن قريب، بأنه لا يقهر. لا تتجلى أهمية ما حدث في جنوب لبنان فقط في الاشتباك المتبادل بين قوات حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلي، وإنما في رمزيته ودلالته، فهو يقطع مع فكر انهزامي ووعي مأزوم سيطر على شعوب المنطقة عدة عقود، استغلته دكتاتوريات عسكرية لفرض سيطرتها على إرادة شعوبها، ولسرقة خيرات بلدانها. وغير بعيد عن لبنان، وهذه المرّة من داخل فلسطين المحتلة، يأتي الحدث الذي سيكون له ما بعده بعد احتلال القائمة العربية المركز الثالث في الانتخابات التي نظمها الكيان الصهيوني. إنها إشارة إلى أن الثورة الديمغرافية الفلسطينية قادمة تصنع تحولها تدريجيا وبهدوء، ومن داخل الكيان المحتل وبأدواته وإمكاناته. نحن أمام ميلاد وعي فلسطيني جديد يشتغل بذكاء، وفي صمت، ويؤمن بأن المستقبل سينصفه، لأن الاحتلال مهما طال هو إلى زوال، وبأن الحق مثل النهر الكبير سيعود يوما إلى مجراه الطبيعي.
ليست هذه فقط هي كل الأحداث التي تبشرنا بأن ما هو آتٍ لن يكون أسوأ مما كان، فهناك أحداث أخرى كثيرة، يصنعها نضال الشعوب العربية في كل بقعةٍ من هذه الجغرافية، أبطالها نساء ورجال مناضلات ومناضلون، من بينهم من يدفعون ثمنها غاليا من حرّياتهم، لكنهم يلهمون شعوبهم الصبر والقدرة على التحمّل والأمل في أن التغيير آتٍ لا ريب فيه، وهو قريبٌ مثل الصبح، وما الصبح ببعيد..
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.