لم يكن الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، على هذه الدرجة من الوهن والقلق منذ الانقلاب الدموي الذي قاده عام 2013 على الرئيس الراحل، محمد مرسي. وإذا كان قد وظف الجيش في انقلابه ذاك، عندما كان وزيراً للدفاع، فإنه يبدو اليوم خائفاً من أن يُؤتى من مأمنه. وفعلاً، يحق للرجل أن يخشى مؤسسة العسكر على حكمه، فهو قد أطاح، منذ عام 2018، العدد الأكبر من جنرالات المجلس العسكري الذي أرغم الرئيس المخلوع، حسني مبارك، على الاستقالة، عام 2011، ثمَّ قام بالانقلاب على مرسي، عندما كان السيسي نفسه هو من يرأسه. ولم يكتفِ السيسي بالتخلص من شركائه في الجريمة، بل إنه لم يتردّد في إهانة رموز كبيرة في المؤسسة العسكرية، كرئيس هيئة الأركان الأسبق، سامي عنان، والمعتقل منذ عام 2018، لأنه تجرأ على الترشح ضده في انتخابات الرئاسة، وكذلك أحمد شفيق الذي طرد مخفوراً، في العام نفسه، من الإمارات العربية المتحدة إلى مصر، لأنه فعل الأمر ذاته. أيضاً، لم تتوقف جهود السيسي الحثيثة منذ توليه الرئاسة، عام 2014، في "تطهير" جهازَي المخابرات العامة والمخابرات الحربية، وبعض الأجهزة الأمنية الأخرى التابعة لوزارة الداخلية، من كثيرين من قياداتها التي لا يثق في ولائها المطلق له.
أوجد كل ما سبق خصوماً أقوياء كثراً لديكتاتور مصر، وهذا يشرح الشكوك التي يثيرها بعضهم حول الممثل والمقاول المصري، محمد علي، والذي هزَّ، على مدى أسابيع، عرش السيسي عبر فيديوهات ينشرها على موقع يوتيوب، إذ ثمة مَن يعتقد أنه قد يكون من أدوات الصراع داخل أجهزة الدولة، خصوصاً أنه كان مقاولاً مع مؤسسة العسكر، ويبدو أنه كانت له ارتباطات بأجهزة استخباراتية مصرية، من خلال عمله منتجاً سينمائياً كذلك. وبغض النظر عن حقيقة محمد علي وخلفيته، واضح أنه حرّك المياه الراكدة في مصر، وتمكّن من إعادة بعض النبض إلى شارعها، وتجلى ذلك، الأسبوع الماضي، في المظاهرات غير المسبوقة المطالبة بتنحّي السيسي عن الحكم. ما يؤكد حجم تأثير فيديوهات محمد علي التي كشفت بعض أوجه فساد حكم نظام السيسي أن "أحد أهم ما عَرَّتْهُ فيديوهات محمد علي أن رئاسة السيسي ليست راسخة كما كان يُظَنُّ، بل قابلة للانهيار".
الأخير اضطر أن يرد عليه مباشرة، على الرغم من إقراره بأن أجهزة الدولة نصحته ألا يفعل ذلك. اللافت هنا أن ردَّ السيسي جاء مؤكّداً اتهامات محمد علي، من حيث بناؤه قصوراً رئاسية، على الرغم من فقر مصر ومديونيتها المهولة التي مسّت بحياة أغلب قطاعات الشعب وقوته.
أحد أهم ما عَرَّتْهُ فيديوهات محمد علي أن رئاسة السيسي ليست راسخة كما كان يُظَنُّ، بل قابلة للانهيار في المدى المنظور. ولن يفيد الديكتاتور محاولاته البلهاء إلقاء اللوم في مظاهرات الأسبوع الماضي ضد حكمه على "الإسلام السياسي" الذي "لن يتحقق الاستقرار في المنطقة ما دام يسعى للوصول إلى السلطة"، كما قال في المؤتمر الصحفي المشترك بينه وبين الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، يوم الإثنين الماضي في نيويورك. ليس محمد علي "إسلامياً"، ولا يبدو أنه متديّن أصلاً، وهو لا يخفي أن ما دفعه إلى الحديث هو خلاف مالي مع المؤسسة العسكرية. أبعد من ذلك، يُغْفِلُ السيسي الأسباب الحقيقية لتفاعل المصريين البسطاء مع دعوات محمد علي لهم للتظاهر والمطالبة بعزله. منذ أن تولى السيسي الحكم والاقتصاد المصري ينتقل من أسوأ إلى أسوأ، ولم تفلح عشرات مليارات الدولارات التي ضختها دول خليجية لتثبيت أركان حكمه في بث الروح في الاقتصاد المتهالك. أيضاً، أنزلت القروض التي أخذتها مصر من صندوق النقد الدولي، في السنوات الثلاث الأخيرة، فواجع محقّقة بعامة الشعب، إذ فرضت الحكومة تقشفاً قاسياً عليهم، وطبقت ضريبة القيمة المضافة، وخفضت قيمة الجنيه، ورفعت أسعار الكهرباء والوقود. وقد شهدت السنة المالية لعام 2017/2018، وحدها، ارتفاع نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر من 27.8% إلى 32.5% مقارنة بعامين قبل ذلك. دع عنك، طبعاً، الفساد والقمع المستشريين بحدود لا تعقل.
يبدو أن السيسي عاجز عن إدراك الحقائق السابقة، أو أن الصلف وصل به مبلغاً يجعله لا يلقي بالاً لها، ولعل هذا ما يفسر تباهيه في ردّه على محمد علي بأنه يبني قصوراً، ولكن ليس لنفسه، وإنما لمصر، وكأن هذه القصور الباذخة التي يَتَنَعَّمُ فيها هو وأهله ومقربوهم، مشاريع إنتاجية، أو أن عامة الشعب يحق لها الترفيه فيها! ومن ثمَّ فإن أكبر تهديد لكرسي السيسي هو غروره أو
"لن يفيد الديكتاتور محاولاته البلهاء إلقاء اللوم في مظاهرات الأسبوع الماضي ضد حكمه على الإسلام السياسي".
غباؤه، لا فرق هنا، إذ إنه يبدو صدى للمقولة المشهورة التي تنسب لملكة فرنسا السابقة، ماري أنطوانيت، عندما رأت من شرفة قصرها مظاهرات الشعب الجائع، فسألت عن سبب ذلك، فقيل لها إنهم يريدون الخبز، فقالت: "إذا لم يكن هناك خبزٌ للفقراء فليأكلوا الكعك"! صحيح أن ثمَّة شكوكاً تثار بشأن دقة القصة أو على الأقل نسبتها إليها، إلا أن هذا هو لسان حال طغاة كثيرين اليوم، ومنهم السيسي، وكلنا يعلم كيف كانت نهاية أنطوانيت وزوجها، لويس السادس عشر، إذ أعدما بالمقصلة أواخر القرن الثامن عشر من جموع الثوار الفقراء الغاضبين.
مصر اليوم تموج بتحولاتٍ كثيرة، وثمَّة جمر مُتقِدٌ تحت الرماد، ويبدو أن هناك مَن ينفخ عليه لعله يشتعل من جديد، ولا يستبعد أن يكون بين النافخين متنفذون حول السيسي نفسه، والذين إما إنهم يشعرون بالغبن، أو طامعون بنصيبهم من السلطة، أو إنهم يسارعون إلى القفز من مركب السيسي قبل غرقه. حينها لن ينفع السيسي الرهان على واشنطن، والتي يثبت تاريخها في التعامل مع وكلائها أنها لا تلقي بالاً لهم عندما يسقطون. لقد ارتكب السيسي كل الموبقات الوطنية في مصر، فسفك الدم، وفرّط في الأرض، وحوّل الجيش إلى مؤسسة نَهْبِيَّةٍ، في حين يلقى البسطاء من الجنود حتفهم في سيناء، في جرائم لا يُعْرَفُ فيها المجرم ولماذا ارتكب جريمته. لذلك كله، حقَّ للسيسي أن يخشى على حكمه وعلى حياته، وأن يخاف غدر من حوله، فالذي خان مرة يخون مرات ومرات.
أخيراً، تثبت التطورات في مصر، والأحداث في الجزائر والسودان والأردن، أن المنطقة العربية لا تزال تعيش ارتدادات زلزال ثوراتها، عام 2011، وبأننا لا نزال بعيدين عن خط النهاية. التحدّي الأهم أمامنا هو ما إذا كُنَّا نقاد نحو ربيع جميل أو شتاء ساخن؟ هذا أمر يحتاج نقاشاً آخر، ولكن كثيراً من الإجابة تعتمد علينا وعلى وعينا، شعوباً وقوى حية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.