"سلام على معمل للدُّمى والنسيج"
قال بدر شاكر السياب في "الأسلحة والأطفال"، وهو يقف أمام السلاح والرصاص وجنازات الأطفال.
وضع الطاغية القيود على سواعد الآباء، يقول النص، ثم جلب الأسلحة وخرب مصانع الدمى ومعامل النسيج. لكن السياب استخرج من الأقدام العارية، أقدام الأطفال، اللعنة التي ستهتك "مكمن الطاغية"، ستنتصر لنفسها ولقاهر آبائها. الملحمة الرومانسية تلك انتهت لصالح الأطفال، كما تخيلها السياب.
تفتك الحروب، قبل كل شيء، بالأطفال. ولأن الأطفال هم المرادف الموضوعي للزمن الآتي فإن الحروب تخريب شامل للزمن على مستويات مختلفة. تقول الأرقام القادمة من اليمن إن 11 مليون طفل بحاجة إلى مساعدة. هذا الرقم الكبير، كما يورده تقرير لليونيسيف، يعادل كل أطفال اليمن. تبدو مسألة الحرب والأطفال في اليمن أكثر تعقيداً من كل الأرقام، بما فيها هذا الرقم الذي يقول إن أطفال اليمن على حافة كارثة وجودية. فواحدة من كل مدرَستين تعرضت لتخريب كلي أو جزئي بسبب الحرب، أو استُخدمت كملجأ للنازحين والهاربين. وفي تهامة، السهل والجبل، يتمكن طفلٌ واحد من كل اثنين من الذهاب إلى المدرسة. قال تقرير يعود إلى العام 2018 أن أكثر من 170 ألف مدرس تركوا المهنة. وفي الأيام الماضية نشر (المصدر أونلاين) خبراً يقول إن الحوثيين سيثبتون قسم الولاية في ثمانية آلاف مدرسة، أي تلك التي لم تتضرر بسبب الحرب. يقول قسم الولاية: اللهم إنا نتولى من أمرتنا بتوليه، سيدي ومولاي عبدالملك الحوثي. سيكمل التعليم الحوثي ما أخطأته الحرب.
مارس الحوثيون أعلى درجات النشاط الإرهابي ضد أطفال اليمن. لا يملك أحد معلومات كافية عن شبكة الألغام التي زرعها الحوثيون في القرى والنجوع والمدرجات. التقارير، على مختلف مصادرها، تتحدث عن مئات آلاف الألغام. يقتل عشرات الأطفال على نحو يومي بسبب الألغام. كما يقوم الحوثيون بإنشاء معسكرات للتدريب الفكري والنفسي لآلاف الأطفال، هناك يقومون بهندسة مشاعرهم وتحويلهم إلى مقاتلين: أي إلى قاتلين أو مقتولين. ما من أثر لمصانع الدمى والنسيج في أرض الحوثيين. فالأطفال هناك يقومون بزراعة الألغام لأطفال آخرين.
إلا أن الأكثر رعباً في قصة الحرب والأطفال في اليمن تتمثل في التأثيرات طويلة المدى للحرب. فهناك تقديرات تقول إن مدينة تعز، حيث يعيش قرابة نصف مليون من السكان، تعرضت لحوالي مائة مقذوف في اليوم على مدى أكثر من أربعة أعوام. عاش أطفال المدينة تحت أصوات المقذوفات، وشوهدت أشلاء الأطفال في عديد من شوارع المدينة. تتوغل أصوات المقذوفات إلى البنية النفسية للطفل، وكذا الجسدية.
الدراسات التي أجريت على المجتمع الفيتنامي بعد الحرب، وقد تعرضت فيتنام لحجم من القنابل يعادل ثلاثة أضعاف ما ألقي خلال الحرب العالمية الثانية، أكدت أن تأثيرات الحرب صاحبت الأطفال حتى الشيخوخة. يتطور القلق والتوتر إلى اضطرابات سلوكية، ومعها يفقد المرء السيطرة على مخاوفه، ويعيش فاقداً للإحساس بالأمان، عرضة لانهيارات نفسية وسلوكية مختلفة. دراسات أخرى ذهبت بعيداً مستنتجة تأثيرات جسدية لأصوات القنابل. فالأطفال الذين تعرضوا لأصوات القنابل لفترة معينة في حياتهم المبكرة يكونون عرضة أكثر من غيرهم للإصابة بأمراض السكر والضغط والقلب مع تقدم العُمر. حديثاً قالت دراسة إن مثل تلك الاضطرابات السلوكية قد تنتقل إلى الأبناء والأحفاد. ذلك سيعني أن الحرب لا تخرب البنية النفسية والسلوكية للأطفال وحسب، بل لأولئك الذين لم يولدوا بعد.
لوحظ، أثناء الحرب العالمية الأولى، أن أعداداً متزايدة من الجنود أصابهم الإعياء وفقدوا شهيتهم للحرب. نعتوا، آنذاك، بالرجال الضعاف، وقام الجيش الإنجليزي بتصفية المئات من جنوده "الضعاف". ذلك قبل أن يبتكر الأطباء مصطلح "صدمة القنابل" في وصف حالة مرضية قد تصيب أولئك الذين يتعرضون لأصوات القنابل لفترة معينة. تطور الاستخدام الطبي للمصطلح إلى "متلازمة ما بعد الصدمة"، وهي حالة مركبة شديدة التعقيد تصيب بدرجة أساسية الخارجين من الحرب أو الصدمة، أي صدمة عنيفة ومركبة. الأطفال الذين يعيشون بالقرب من القنابل يكونون أكثر عرضة لهذا اللون من الاعتلال. تقول معلومات ميدانية إن هنالك حوالي أربعة ملايين ونصف مليون طفل يعيشون في مناطق تشهد مواجهات عسكرية. في تلك المناطق يصبح الطفل عرضة لفقدان الأهل، للجوع، لتفشي الأمراض، للحرمان على كل المستويات، فضلاً عن أصوات القنابل. تحيط كل هذه الأزمات بالطفل وتتوغل إلى نسيجه النفسي الهش وتحدث فيه تخريباً مستداماً.
على أن مأساة الأطفال في اليمن، حيث لا مصانع للدمى والنسيج، لا يمكن الإحاطة بها. شاهد العالم صور الأطفال وهم يموتون جوعاً، وشاهدهم أسرى ومقاتلين وجرحى. في اليمن دُفع الأطفال للمساهمة في صناعة الحرب كمقاتلين. في الجبهة يشاهد جزء من الأطفال الجزء الآخر وهو يفقد روحه أو أجزاء من جسده. لا يتعلق الأمر، بالنسبة لأطفال اليمن، بصدمة القنابل بل بما هو أكثر تعقيداً من الصوت. يعانون من مستويات مركبة من الصدمة ستهبط مع الناجين من الحرب إلى أبنائهم وأحفادهم. فقد قالت دراسة إن 60% من أطفال الحرب في ألمانيا يزورون أطباء نفسانيين.
من الواضح أن هذه الحرب لن تنقذ شيئاً من السرديات الكبيرة على مستوى الجمهورية والدولة، وأنها قد نشبت في البنية النفسية والجسدية لأطفال هذا اليوم وستواصل الفتك بهم في طريقها إلى ذرياتهم. إنها المشكلة الأعظم، وما يزيدها سوءاً أنها غير مرئية ولا مفكر فيها. وسيمضي وقت طويل حتى تعود مصانع الدمى والنسيج إلى العمل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.