هي شفرة التواصل مع الجمهور
في بلادنا إما أن يكون السياسي فاسداً ضمن منظومة الثروة والسلاح، أي تابعاً لدوائر رجال الأعمال والأجهزة الأمنية والعسكرية، فتصاغ لأجله وبحدوده القوانين، وتصك السياسات، وترتسم الموازنة الحكومية لتعكس القوى النسبية والمتبادلة في "حلبة الأقوياء"، وتتبع منظومة القضاء مصالحه قدماً بقدم، أو أنه مثقف أيديولوجي أو مهني من أبناء الطبقة الوسطى يسعى للترقي الاجتماعي، بالانضمام إلى تنظيم معارض أو لقيادته.
وفي الحالة الثانية، ولأنه لا يملك من مقومات القوة كثيراً، إلا الخطاب، فالمساحة التي يشغلها في بلادنا حيث أصل "الديكتاتورية" مساحة بعيدة عن "حلبة الأقوياء" وعن ذهن المواطن العادي… فالمواطن لا يهتم كثيراً بالمصطلحات والشعارات والأهداف العليا التي يروّج لها الأيديولوجي.
لا تأتي مفاهيم الشرعية والدولة الإسلامية بالخبز والجبن للمواطنين، لا تسدد "الشعارات" فواتير الكهرباء ولا مستلزمات المدارس. لهذا تفضل الجماهير اتباع القويّ، أو الركون إليه وقبول سطوته، في محاولة لضمان "أكل العيش"، وتسمع له أكثر ما تسمع للمعارض الأيديولوجي.
حين تكتظ مساحة "الخطاب" السياسي بالمعارضين من كل اتجاه دون تأثير حقيقي في واقع السياسة والمعائش هذا بينما تموج حلبة الأقوياء بالصراعات التي يدفع ثمنها المواطن يكون المتنفس الوحيد هو الفن والرياضة.
لهذا يكثر جمهور الرقص والكرة في بلادنا، وتشيع النكات السياسية في ثوب الفن، وتنفذ كلمات "فنان" معارض أكثر مما تنفذ ألوف الخطابات والكتب والمناظرات والمحاضرات والمؤتمرات والشعارات التي يروجها السياسي المؤدلج، تماماً كما تنفذ هتافات مشجعي "الألتراس" ضد الأجهزة الأمنية، إلى عقول وقلوب الجماهير، فالفنان والرياضي ومشجعوهما يدافعون عن "هامشية" الجماهير، عن الحد الأدنى يدافعون عن مساحة "أكل العيش" و "المرح" في حياتهم، وليس هدفهما تغيير الكون أو تأسيس الدولة العلمانية، أو الإسلامية، أو تعديل الدساتير أو أهداف "ما بعد" المصلحة الوقتية المباشرة للمواطن.
يجتذب هجوم "الفنان" على المتصارعين في حلبة الأقوياء عيون الجماهير بالأداء أكثر من المضمون، فالكل يعلم قواعد اللعبة، وكل محكوم يعلم في قرارة نفسه أن علاقته بـ "اللامؤاخذة دولة" علاقة متفرج فقط، وقد يصفق للحاكم إذا تطلَّب الأمر ليضمن السلامة.
تماماً كما تجذب شعبية "الأداء" عيون الجماهير لمعارضة مشجعي الكرة، فهؤلاء يحاولون حماية الحق في المرح أثناء الكدح لأجل لقمة العيش.
يقر الجمهور في الحالتين أنه معدوم التأثير في مقدرات حلبة الصراع، ويكدح للعيش في الهامش في سلام، وبالتالي أبسط حقوقه هو أن يهنأ بلحظات المرح والضحك، فالموت غمّاً أصعب من الموت جوعاً على كل حال، وهو في "تطنيش" خطاب السياسي المؤدلج معارض النظام، إنما يسعى لتأجيل الموت غماً أو تفاديه.
وتبقي عقدة "انتهازية" السياسي المعارض الواقف خارج الحلبة، وغيرته من استحواذ الفنان والرياضي على قلوب الجماهير، فحالما يكثر جماهير الفنان المعارض، بالأداء والمضمون، يحاول السياسي سحب الجماهير إلى "مثاله"، وركوب "الموجة"، ووضع العناوين والشعارات الخاصة به… وهو عين ما تتنصل منه الجماهير فور ما تدرك الثمن، مرة أخرى الموت غماً أصعب من الموت جوعاً.
لهذا يعلم "محمد علي" حدود التغيير الذي يسعى إليه، يعلم أنه لن يأتي من قِبَل الشعب، فالجمهور يكتفي بالتصفيق، وأقصى ما في الأمر أنه يسعى لإضفاء مشروعية الرضا عن التغيير المقبل.
أما السياسي المؤدلج، في كل الاتجاهات، فمساعيه لركوب الحراك المرتقب مجاناً مثار للشفقة، إنهم لا يتعلمون أبداً، ولا حتى قيادات 25 يناير.
وهذا ما تثبته ردود الأفعال العامة على دعوات التظاهر في الفيديوهات الأخيرة، أي أن مظاهرة من بضع عشرات ستكفي "المنقلبين على المنقلب" لادعاء تأييد الملايين، والإتيان بالبديل… هكذا يلعب الأقوياء في حلبة الصراع.
ويبقى أصحاب الشعارات خارج الحلبة كالعادة، في انتظار "ركوبة" جديدة قد تأتي لهم من السماء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.