- عبد الرحمن الأبنودي
للمفكر والمناضل الإيطالي الشهير أنطونيو غرامشي كراسة كتبها أثناء سجنه في سجون النظام الفاشي الإيطالي الذي قضى فيه نحبه بعنوان "الأمير الجديد". يستحضر غرامشي في هذا العنوان كتاب المفكر الإيطالي الأشهر نيقولا ميكيافيلي "الأمير" الذي كتبه ميكيافيلي قبل كتاب غرامشي بنحو 5 قرون، وهو الكتاب الذي اشتهرت منه عبارة ميكيافيلي الشهيرة "الغاية تبرر الوسيلة". يعيد غرامشي في كراسته تأويل ميكيافيلي فلا يرى فيه مجرد مثقف سلطة يقدم نصائح إلى الأمير ليتمكن من إخضاع شعبه والسيطرة عليه، وإنما مثقف وطني إيطالي كان يحلم بأن تتوحد إيطاليا، ورأى أن الطريق إلى ذلك يتم من خلال قيام أمير لإحدى مدن إيطاليا بقيادة عملية التوحيد انطلاقاً من مدينته، وهو يقدم لذلك نصائحه إلى ذلك الأمير المنتظر.
لإيطاليا تاريخ سياسي مختلف عما قد يبدو عليه البلد من الخارج. تنتمي إيطاليا جغرافياً إلى أوروبا، وهي إحدى بلدانها الكبرى سواء في جغرافيتها أو في مكانتها الحضارية أو في حجمها السكاني والاقتصادي. لكن إيطاليا لم تظهر على سطح التاريخ كدولة حديثة موحدة ومستقلة إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وبالتحديد بين عامي 1860 و1870، وربما يمكننا القول بأن مصر الحديثة كانت أسبق في ظهورها على مسرح التاريخ من إيطاليا. يحمل النسيج الاجتماعي الإيطالي تناقضات أقرب إلى التناقضات التي تعانيها بلداننا التي تسمى بلدان العالم الثالث.
على مدى التاريخ، كانت إيطاليا معقلاً للمسيحية الكاثوليكية، واحدة من أقوى الديانات في التاريخ البشري وأكثرها انتشاراً. في قلب إيطاليا، يستقر الفاتيكان، المؤسسة الدينية الأقوى في العالم، ولم تكن العبارة الإنجيلية الشهيرة "أعطِ ما لله لله، وما لقيصر لقيصر" كافية، بخلاف ما يتصور كثير من المسلمين، لحل الأزمة التي نشأت بالضرورة بين سلطة البابا في الفاتيكان وبين السلطة العلمانية التي كان من الضروري أن تنشأ لإيطاليا، كما كان من الطبيعي أن يندلع الصراع بين ثقافتين، تنتمي إحداهما إلى روما القديمة التي لا تعرف المسيح، بينما تعتز الأخرى بالصليب.
علاوة على ذلك، فقد اتسم التطور الاقتصادي لإيطاليا الحديثة بتركيبيته وتفاوته. انتقلت إلى شمال إيطاليا عدوى التصنيع من جيرانه في تحقق تاريخي للمثل الشعبي المصري "من جاور السعيد يسعد"، بينما ظل الجنوب الإيطالي حبيس عمل القدماء، الزراعة، بكل ما يصحب ذلك النشاط من مظاهر الحياة الريفية وثقافتها.
من الجنوب، أتى غرامشي الذي ظل يرى أن إيطاليا بحاجة إلى أن تتوحد من جديد، وبعبارته التي تستعيد ميكيافيلي، إنها بحاجة إلى "أمير" في زمن لا يعرف الأمراء، لذلك لا بد من "أمير جديد" تمنى غرامشي أن يكونه الحزب الشيوعي، وهو الحلم الذي ظل رفيق غرامشي وتلميذه بالميرو تولياتي يحاول أن يحققه منذ أسقط المقاتلون الشيوعيون النظام الفاشي، إلى أن انهارت الجمهورية الإيطالية الأولى وانهار معها الحزب الشيوعي.
مصر ورحلة البحث عن الأمير الجديد
كانت تلك المقدمة النظرية والتاريخية الطويلة ضرورية لفهم موقع الجيش في المسألة المصرية. في مطلع القرن العشرين، حاولت نخبة من المثقفين من أبناء أعيان الريف أن تلعب ذلك الدور، بناء الأمة المصرية التي تعرف نفسها كأمة مصرية لديها ثقافتها المميزة لها، وتملك مقومات اقتصادية حديثة في الصناعة والتجارة، لكن تلك النخبة التي تجسدت في الوفد وأحزاب أخرى كانت قد أفلست قرب نهاية الأربعينيات، وباندلاع معركة القناة ضد الإنجليز وحريق القاهرة بدا واضحاً أن الأمة بانتظار "أمير جديد" آخر بدأ يطفو على السطح في يوليو/تموز 1952.
رأت النخب الثقافية المصرية في الجيش تجسيداً للدولة، وفي الدولة قاطرة للتنمية وأداة لبناء الأمة. من أعلى، يمكن للدولة أن تفرض على الجميع هوية واحدة، أن تخلصهم من أسمال الماضي وثقافته البالية بنظر النخبة. ولحرق المراحل، وتعويض الفائت، يمكن أن تلعب الدولة الدور الذي لعبته النخبة الاقتصادية الأوروبية في تطوير الاقتصاد الوطني.
وفي خلفية هذا المشهد يسمع صوت المثقف: الاستعمار هو المسؤول عن المشكلتين؛ الرجعية الثقافية والتخلف الاقتصادي. التحرر الوطني إذن هو السبيل غير المباشر لمعالجة المشكلتين والجيش هو رأس حربة الأمة في التحرر الوطني. ليس من الصعب أن يستنتج المثقف من ذلك البرهان الآرسطي أن الجيش هو "الأمير الجديد".
وراء الجيش، اصطفت النخبة الثقافية المصرية بكافة تياراتها. من اليسار، رأى الماركسيون في ضباط الجيش برجوازية صغيرة وطنية يمكن أن تكون حليفة للطبقة العاملة ضد الاستعمار من جهة، وضد الماضي الإقطاعي من جهة أخرى، في سبيل التصنيع والتطور نحو مجتمع أكثر استعدادا للاشتراكية. من اليمين، رأى القوميون في الجيش حارساً للاستقلال الوطني وقائداً للأمة.
لكن بين هزيمة 1967 وزيارة السادات إلى القدس 1977، عشر سنوات من الأحلام الضائعة والصدمات. دعك من الفشل الاقتصادي؛ فكر فحسب في أن رأس الحربة في معركة التحرر الوطني قد ذهب بقدميه إلى العدو يطلب إنهاء الخصومة. استيقظ المثقف الوطني على حلمه وقد استحال كابوساً. في اليسار، بدأت المراجعات النقدية اللاذعة لنظرية التحالف مع البرجوازية الوطنية بوصفها قائداً ممكناً للمعركة ضد الاستعمار وفي سبيل التحديث. لا بد من العودة إلى الجماهير، الطبقة العاملة هي الجدير بقيادة الحركة الوطنية. في اليمين، برز الإسلاميون كأمير حديث محتمل.
ماذا يحدث للإنسان عندما يواجه حقيقة صادمة لا يقوى على التعامل معها؟ نعم، إنه يهرب إلى عالم وهمي يصنعه في خياله. عندما يحيا الإنسان تماماً في عالمه الوهمي يكون عندئذ مصاباً بالفصام. هذا هو بالضبط ما عاناه المثقفون المصريون على مدى نحو ثلاثين عاما سبقت ثورة يناير. حالة سكيزوفرينيا جماعية. لم يكن من السهل على هؤلاء المثقفين الاعتراف بأن دولة يوليو بحاجة إلى تقويض شامل. لم يستطع هؤلاء أن يعترفوا بأن الجيش ليس فحسب راضياً عن معاهدة كامب ديفيد، بل هو حارس لها ويرى في ذلك مهمته الأساسية. ولم يكن من السهل عليهم كذلك أن يقتنعوا بأن الضابط لا يبغض رجل الأعمال لأن الأخير فاسد أو غير وطني، وإنما يبغضه فحسب لأن الضابط غير قادر على مشاركته التمتع بثروته.
تكون لدى النخبة الثقافية المصرية خيال سياسي يقوم على التحالف المأمول بين المثقف الوطني والموظف العمومي الوطني (البيروقراطي) الذي يمثل الضابط ذروة تجسيده، ضد رجل الأعمال غير الوطني الفاسد. عشرات الأفلام والمسلسلات دارت حول رجل الأعمال الفاسد الذي يحاربه ويفضحه مثقف وطني (صحفي شريف مثلاً) في صراع يحسمه الضابط الشريف أخيراً لصالح المثقف. كان المثقف يحلم فحسب بمكان يسمح له به الضابط بجواره، أن يكون وزيراً ومستشاراً للسيد الضابط الذي يقبل نصيحة المثقف من فرط إحسانه. قررت النخبة الثقافية المصرية أن تخوض معركتها مع الخصم الأسهل، والحائط المائل الذي يمكن تحميله وحده مسؤولية عقود من الفشل الاقتصادي والتمزق الوطني، نخبة رجال الأعمال.
خيانة فارس الأحلام
يعلمنا غرامشي أيضاً أن السياسة ذات طبيعة مزدوجة. إنها لا تجري فحسب على مستوى السيطرة الرسمية من خلال أجهزة الدولة القمعية على المجتمع، وإنما تمتد إلى عالم المجتمع المدني، إلى المدارس والمساجد والكنائس والأندية والصحف، حيث يمكن للسلطة أن تسيطر على عقول وأرواح المحكومين ليخضعوا لها. إنها الهيمنة.
على مدى الأعوام الماضية، كان ما يحدث هو نخر مستمر لهيمنة الجيش؛ لذلك الخيال السياسي الذي كان الجيش بطل أحلامه الوطنية والاقتصادية. رأى الوطنيون بأعينهم كيف يسلم الجيش أرض الوطن إلى بلد آخر، كما رأوا بأم أعينهم خيانة فارس الأحلام مع الغريم حين تلاشت الحدود بين سيادة اللواء والسيد البيزنسمان.
تفقد مؤسسات دولة يوليو بمضي الوقت أي سمة يمكن أن تعطيها طابع المؤسسة. تتحول إلى كيانات عصبوية وشبكات مصالح تفتقر إلى أهلية القيام بأدوارها، دعك من النزاهة. ليست المشكلة في أن لدى السيد القاضي أهواء تذهب بأحكامه مذاهب شتى، وإنما أن السيد القاضي على ما يبدو لم يعد قادراً على قراءة حيثيات حكمه على نحو سليم. دعك من القانون الآن، السيد القاضي بحاجة إلى تعلم القراءة والكتابة. أما السيد رجل المخابرات، فقد عرف الناس حين شاهدوه في التليفزيون أنه لا يشبه أدهم صبري بقدر ما يشبه إسماعيل يس في البوليس السري. إنه مكر التاريخ، أن تتساقط مؤسسات الدولة من حيث تصورت أنها تحمي نفسها في معركة وجود.
لا تعني خسارة الهيمنة خسارة الحب والرضا فحسب، وإنما تعني خسارة الثقة والرهبة. إن الهيمنة مسألة مادية تماماً لا ثقافية فحسب. إن هيمنة السلطة تنبع من تماسكها وقوتها في نظر المحكومين، وليس فقط من إنجازاتها أو خطابها. عندما تظهر السلطة بليدة هشة فإنها تفقد هيمنتها حتى وإن كانت تحمل أكواماً من السلاح، وحتى وإن كانت ما زالت تحظى بقدر من الحب. إن هذا ما يجعل من السخرية مثلاً سلاحاً خطيراً قميناً بتهديدها.
ما حدث على مدار الأيام الماضية، وربما السنوات والعقود، عنى بالفعل موتاً إكلينيكيا للسلطة الحالية مهما استمر عمر غيبوبتها بعد ذلك من سنين. قضي الأمر واستحال الجنرال رجلاً ميتاً يسير على قدمين.
الإصلاح السياسي المستحيل
المعضلة السياسية اليوم تتمثل في أن الدولة أضحت كتلة واحدة من رأسها إلى أخمص قدميها، ولم يعد التخلص من أي من عناصرها كافياً لحل معضلتها، حتى إن مجرد الفصل بين مكوناتها لم يعد ممكناً. يمكننا أن نقول: "وداعاً عصر الثورات المخملية"، فلم يعد يمكن الفصل بين السلطة وجهاز الدولة. يجعل ذلك من أي معركة سياسية فعلية قادمة صراع وجود، وعلى أحسن تقدير، معاهدة استسلام وخطة تفكيك لدولة لم يعد لديها ما تقوله أو تقدمه لشعبها.
يعرف المصريون منذ قيام ثورة يوليو ظاهرة "صحفي الرئيس" التي جسدها محمد حسنين هيكل مع جمال عبدالناصر. لم ينجح أي صحفي لاحقاً في أن يعيد إنتاج "نموذج هيكل" الذي يمثل حلم كل صحفي مصري، لكن ظل بعض الصحفيين أقلاماً تكتب بها السلطة ما لا تود أن تضع عليها ختم النسر. يعرف الجميع أيضاً أن الراحل ياسر رزق، رئيس تحرير أخبار اليوم السابق، وصاحب أول حوار صحفي مع الرئيس عبدالفتاح السياسي بعد 30 يونيو، كان أقرب الأقلام الصحفية للرئاسة.
كتب رزق قبل 3 أعوام يتحدث بصيغة من يخبر بما سيكون عن انفراجة سياسية محسوبة على أرضية 30 يونيو، تقوم الدولة خلالها بإفساح مساحة من الرأي في الإعلام الذي تم تأميمه، بل ومصادرته كلياً خلال الفترة الماضية، وإعادة تشكيل الخريطة الحزبية في تجربة تشبه تجربة المنابر حين قررت الدولة أن تخلق بنفسها حزباً لليسار وآخر لليمين وحزباً لها في الوسط بالطبع.
تمثل تلك المحاولة خطوة إلى الخلف من نظام وضع نصب عينيه ألا يتخذ هذا المسار يوماً. كان السيسي منذ يومه الأول يرى في أن إتاحة مجال سياسي مهما كان خاضعاً لسيطرة الدولة هو السبب وراء سقوط السادات ثم مبارك، وأن الأسلم، وما يتناسب مع مطامح الضابط الصغير، هو إعادة إنتاج الحالة الناصرية حيث تتآزر كافة المؤسسات والأطراف في الدولة على أرضية مشروع واحد يمثله شخص الرئيس والمؤسسات العاملة معه.
من الطبيعي ألا يفهم الضابط الصغير أن الشروط التاريخية وبنية النظام التي سمحت لعبدالناصر بذلك غير متوفرة لنظامه، وأنه حتى لا يملك مفردات خطاب يصلح لنحو هذا البناء، فنغمة محاربة الإرهاب وحماية الدولة من الأشرار لا يمكن أن تكون مشروعاً وطنياً للتعبئة الشعبية موازياً لمفردات التحرر الوطني والتحول نحو المجتمع الاشتراكي والتحديث والوحدة العربية.
عوضاً عن إعادة إنتاج الحالة الناصرية، أعاد السيسي ونظامه إنتاج "خريف الغضب"، حين أعلنت سلطة السادات، عارية بلا خطاب ولا مشروع، الحرب ضد الجميع من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
يعيش السيسي اليوم أيضاً خريفه حيث يبدو في حرب مع الجميع داخل مؤسساته وخارجها، لا يحقق مصالح أي طرف ولا يسمح على الأقل لتلك الأطراف بمساحة للحركة وإنقاذ مصالحها؛ لذلك فهو مضطر إلى الاتجاه نحو انفراجة سياسية محسوبة على غرار سلفه السادات ثم مبارك.
لكن الانفراجة السياسية لا يمكن أن تكون محسوبة خاصة في أوضاع متردية على كافة الأصعدة، وهي محكومة بأن تنتهي ضرورة نحو الانفجار في ظل أن النظام ليس لديه ما يقوله سياسياً في أي ملف. فحين تنفخ بالوناً بالهواء زيادة عن الحد، فإن ثقباً صغيراً قد لا ينفس هواء البالون، وإنما يفجره. كما أن الانفراجة السياسية تعني أن يتمأسس النظام في حزب سياسي، ما يعني فطام النظام من رحم الجيش، وهو ما لا يريده السيسي الذي يود أن يبقي الجميع معه على مركبه لكي يظل الجميع حريصاً على المركب أكثر من السيسي نفسه.
إن الدولة، وليس النظام فحسب، ليس لديها ما تقدمه، ومؤسساتها تعاني حالة متردية تماماً سواء في كفاءتها أو في منطقها السياسي، لذلك فإن السيسي لا يمثل عقبة يمكن أن تميطها عن طريقها لتمضي وتحافظ على نفسها كما كان مبارك، وإنما آخر أوراقها التي يعني سقوطها سياسياً أو حتى بيولوجياً إعلان إفلاس الدولة النهائي، فلا أحد سيرضى بإنتاج سيسي جديد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.