لماذا تُعد الثورة في مصر اليوم ضرباً من ضروب المستحيل؟

عربي بوست
تم النشر: 2019/09/19 الساعة 19:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/01/24 الساعة 13:17 بتوقيت غرينتش

تتعالى في مصر الصيحات المُنادية بثورة أخرى على غرار ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني، وهذا ليس بجديد، فدعوات الثورة مستمرة منذ منتصف 2014 واشتعلت أكثر مع قرار النظام المصري بيع تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية، والآن تضرب مصر موجة أعلى من الغضب والتململ مطالبة بإشعال فتيل الثورة تزامناً مع تسريبات المُقاول محمد علي ودعواته إلى الخروج للشارع. لكن كثيرةٌ هي الدعوات التي تطالب الشعب بالثورة، تارة من قِبل الإسلاميين وتارة من قِبل اليساريين. والحقيقة هي أن الثورة التي شهدناها في الـ 25 من يناير، قد رحلت إلى مثواها الأخير بلا أي أمل في استعادتها بالشكل الذي نعرفه، والسبب في ذلك هو تفكك التكتلات النقابية والحركات السياسية الشبابية مثل حركة كفاية والسادس من أبريل مروراً بالاشتراكيين الثوريين وحتى جماعة الإخوان المسلمين، فالنظام العسكري سعى حثيثاً للقضاء على كل التكتلات المدنية الحقوقية والمعارضة السياسية، بل حتى التكتلات الدولتية التي يمكنها أن تخرج عليه.

تاريخ الثورات والدروس المستفادة

منذ الثورة الفرنسية والثورة الروسية البلشفية وحتى ثورة 25 يناير/كانون الثاني والثورة السودانية حالياً، لم يحدث في التاريخ البشري أن كانت ثورة ضخمة، مثل هذه الثورات وليدة الصدفة أو عفوية أو ثورة يقودها الجياع. جميع الثورات تبدأ بمراحل طويلة من الممارسات السياسية والتنظير، تسبق حدث الثورة بسنوات وربما عقود. ويولد من تلك الممارسات والنظريات عدد من التنظيمات السياسية أو تجمعات المثقفين أو ما يسمى الـ "الإنتلجنسيا". على سبيل المثال، فالثورة الفرنسية 1789 ما كان لها أن تقوم دون وجود منظّري الإنسيكلوبيديا الفرنسية والتي أشرف عليها أهم مفكري "العقد الاجتماعي" مثل جان جاك روسو وفولتير مروراً بديدرو وهولباخ وغيرهم، وما كان لها أن تقوم دون التغيرات الجوهرية التي كانت تحدث في المشهد الخارجي والداخلي الفرنسي الذي أفرز "الجمعية الوطنية National assembly" التي دعت الشعب في باريس إلى الثورة والقضاء على الملكية، وهي التي أدت إلى ظهور مجلس اليعاقبة فيما بعد.

أما الثورة الروسية فقد حملت تاريخاً طويلاً من محاربة القنانة في روسيا وحتى إلغائها عام 1860، مروراً بنضالات المثقفين الأناركيين ومحاولات الانقلاب المستمرة حتى المحاولة الفاشلة للثورة في 1905 والتي من عندها بدأ يتم الإعداد لثورة شاملة من قِبل كل المثقفين الاشتراكيين والتي قادها فلاديمير لينين ورفاقه البلاشفة (أكتوبر/تشرين اﻷول 1917) والتي جاءت مُتممة لجهود مجالس العُمال والجنود الروس في سان بطرسبرغ وموسكو، أي إن الثورة الروسية جاءت نتيجة لعمل متواصل وتنظيمات سياسية وعمالية تُسلم بعضها بعضاً على مدار عقود.

فالثورة وليدة فترات طويلة من الممارسة السياسية والتنظيمية والنظرية المتواصلة، فتأتي مُتممةً ومُعززة للمِخيال الاجتماعي الذي اكتسبه الناس لتنظيم علاقة كلٍّ منهم بالآخر.

الثورة عند العرب

تحتل "الثورة" موقعاً مميزاً في المتخيل الاجتماعي الحديث، فأغلب الشعوب العربية تؤرخ بداية تحررها من الاستعمار وتأسيسها للجمهوريات، انطلاقاً من حدث ثوري وقع هنا أو هناك.

المُتخيل الاجتماعي الذي نقصده هو عدد من التصورات والقصص التي يحملها كل شعب عن نفسه وعن علاقة كل فرد منه بالآخر ومن ثم علاقته بالسلطة وتنظيمها، وهو ينشأ ويتسع اعتماداً على عنصرين: النظرية والممارسة. فالنظرية هي مجموعة التصورات التي لدينا عن القانون والدستور والدولة وتصوراتنا عن الديمقراطية والمجال العام وسيادة الشعب على نفسه بوصفه مصدر السلطات، والعنصر الآخر هو الممارسة، فمن خلال الإضراب والتظاهر والانتخاب الديمقراطي الحر تتعزز النظرية، ومن خلال الاثنين معاً ينشأ المُتخيل الاجتماعي.

فالثورة هي ذلك الحدث وذلك التغيّر الكمي، الذي تتجه إليه الشعوب عندما يخبرها مُتخيلها بحدوث انتهاك ما للممارسة مثل التزوير في الانتخابات أو وجود قضايا فساد دون حساب عادل لمرتكبيه وخلافه، أو انتهاك للنظرية مثلاً عندما يُعاد تعريف مصطلح "الشعب" بقصره على جماعة دينية أو عرقية مُحددة دون غيرها، هنا تصبح الثورة هي المسار الذي تتجه إليه الحركات والممارسات والتغيرات الكيفية كافة لتعديله حتى تعود الأمور لنصابها الطبيعي.

استحالة الثورة المصرية

جاءت الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011 من المسار الطويل والصعب نفسه الذي جاءت منه أغلب الثورات على مر التاريخ، فمنذ نهاية تسعينيات القرن العشرين، أي منذ انتهاء صراع الدولة المصرية مع الجماعات الجهادية والتكفيرية، بدأت تظهر أشكال من الممارسات السياسية على شكل تظاهرات أو وقفات احتجاجية في 2001 و2003؛ اعتراضاً على غزو العراق، وفي 2004 وبداية نشأة حركة كفاية، مروراً بعمل تشكيلات نقابية موازية ومُستقلة عن الدولة بشكلٍ أو بآخر، ثم بدايات الزخم وصعود الإخوان المسلمين في انتخابات 2005، وحتى بدأت قطع الدومينو بالتساقط في 2008 مع إضراب المحلة الذي دعا إليه عدد من النشطاء السياسيين المستقلين الذين عُرفوا فيما بعد بحركة السادس من أبريل ومعهم حركة كفاية، التي تحولت لاحقاً من إضراب عمالي سلمي تدخَّل فيه الأمن وحوَّله لأحداث شغب وعنف، ومن تلك الفترة بدأ الشباب في التواصل بين التنظيمات من خلال المدونات وخارج المدونات حتى ظهرت الجمعية الوطنية للتغيير في فبراير/شباط 2010 والتي تجمعت فيها تلك التنظيمات الشبابية وجماعة الإخوان المسلمين، وطا\لبوا من الدكتور محمد البرادعي أن يكون واجهة لها، وجمعوا ما يزيد على مليون توقيع من كل من يريد أن يُحدث تغييراً سياسياً في مصر، وبشكلٍ ما يمكننا أن نقول إن تلك المحاولة كانت الدافع الأساسي للجمع بين كل الفاعلين السياسيين وتواصُلهم بعضهم مع بعض في الوقت نفسه، حتى جريمة قتل خالد سعيد وكنيسة القديسين وبدايات الدعوة إلى 25 يناير/كانون الثاني.

فعلى مدار أكثر من عقد، كانت القوى السياسية تحاول التواصل والحشد والنزول إلى الشارع وفتح المجال العام بالإجبار، وهو ما انصاع له مبارك في النهاية، أي إن الحدث لم يكن مجرد دعوة على الفيسبوك انضم إليها الشعب كما يظن كثيرون، والسبب في هذا الاعتقاد الخاطئ مفهوم جداً؛ فأغلب المهتمين بالشأن السياسي اليوم أدركوا السياسة من حدث الثورة نفسه، وشهدوا لحظات مجدها ولحظات هزيمتها، وعاصروا الثورة من الوقت الذي كانت فيه مجرد دعوة على الفيسبوك، لكنهم لم يعاصروها نضالاً مستمراً على مدار السنوات، دفع ثمنها كثيرون سواء كانوا من الإخوان المسلمين أو اليساريين والعلمانيين، فالجميع قد شهد المنتَج لكن لا يعرف كيف جاء.

وعودة إلى السؤال الذي بدأتُ منه المقال، أقول إن الظرف الحالي شديد الصعوبة، فكل التكتلات الشبابية وكل التجمعات النقابية المستقلة قد انتهت وتحللت، أي إنه لم يعد هناك تنظيم ولا ممارسة سياسية كأننا عدنا إلى المربع صفر، ليس هذا وفقط فالنظام الحالي مُصرٌّ على إغلاق كل ما يمكن أن يسمح بنشأة هذا المسار من البداية مرة أخرى بشتى الطرق العنيفة واللاقانونية.

وعلى الرغم من حدوث تحوُّل في المشهد مؤخراً بعد كشف محمد علي لما يملكه من أدلة على فساد النظام الحاكم، فإنَّ حدث الثورة نفسه يبدو بعيد المنال، لكن ما يحدث لا يتوقف عن كونه مُبشِّراً، فاستمرار سقوط الأساطير والأقنعة التي يرتديها النظام أمر يمكنه أن يمهد الطريق لحدوث ثغرة بسيطة في السد، وهو بالتأكيد مكسب لصالح انهيار السد بالكامل.

وعلى الرغم من ذلك، فالمشهد ربما يتسارع أكثر مما نتوقع ويحدث شيء من داخل النظام نفسه يسمح بحدوث تلك الثغرة في المجال العام، فالأمر حالياً أشبه بمعضلة "السجينين"، وهي معضلة مشهورة في نظرية الألعاب، وفيها يكون هناك سجينان، كل منهما منفرد عن الآخر ومُخيَّر، فإن قرَّر الاعتراف على زميله فسوف تتم تبرئته، والآخر يُسجن عشر سنوات، وإن اعترف الاثنان معاً في الوقت نفسه فسوف يتشاركان المدة أو يصمتان فيتم إخلاء سبيلهما، وحالياً يتوجه المشهد إلى تلك اللعبة؛ إما أن يصمت الشعب ولا يتحرك محرّضو المشهد، إما أنو يتحركا معاً فيحدث شيء.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مصطفى هشام هو مهندس وباحث مصري مهتم بالفلسفة وعلم الاجتماع

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مصطفى هشام
باحث مصري مهتم بالفلسفة والعلوم الإنسانية
باحث مصري مهتم بالفلسفة والعلوم الإنسانية