أثارت فيديوهات الممثل/ المقاول، محمد علي، ورسائله فيها، ضجة لم يتوقعها هو نفسه، وتحدث هو عن ذلك. دلالات هذا الأمر كثيرة، بعضها متصل بشخص محمد علي، وحضوره الشعبوي الواضح وعلاقته بالكاميرا، من ناحية الشكل، ودلالات أخرى متصلة بالحاجة النفسية العميقة لمن "يصرخ" نيابةً عن قطاع واسع من المصريين، معبراً عن غيابٍ كبير للرضا عن حالة العدالة الاجتماعية خلال حكم عبد الفتاح السيسي، فالسياسات الاقتصادية الاجتماعية المتبعة منذ سنوات أدت إلى إحساس عميق بأن "اقتصاد الدولة" يجب أن يتعافى على حساب مستوى معيشة القطاع الأكبر من المواطنين.
القضايا النظرية التي تتناولها رسائله المصورة يمكن أن تكون أكثر وضوحاً ومنهجيةً في أدبيات أكاديميين ومتخصصين وسياسيين كثيرين، ولكن المغزى الشخصي البسيط المباشر لرسالة أن هناك "قلة" يحصلون على الكثير من مال الدولة، وأن هناك كثرة محرومة، هو أحد أهم عوامل الاهتمام الذي لم يتوقعه صاحب الرسائل نفسه. ولم يكن ممكنا أن يتحقق تأثير سياسي كبير للحديث عن الجدوى الاقتصادية للمشروعات، بل ربما كان سيتحول إلى جدل عقيم، تتقارع فيه الألسنة بالإحصاءات والإحصاءات المناقضة لها، كما الحديث عن فساد في عمل الدولة مما اعتاد المصريون على تداوله سراً وعلناً. ولكن ما الذي جعل لرسائل محمد علي هذا التأثير الكبير؟ لعله الاستحضار الواعي لخطاب "حتمية التقشف" في مقابل سلوك يقطع بأن هناك من ينفق على ترفه من مال الدولة، وهذا مما يمس عصباً ملتهباً بشكلٍ مزمنٍ عند مصريين كثيرين.
وقد شهدت السنوات القليلة الماضية إلحاحاً في خطاب المعارضة على قضايا الحريات لم ينجح في استثارة رد الفعل الذي استثارته فيديوهات محمد علي. وهذا أحد الدروس المهمة في فهم ما يشكل أهمية أكبر للمصريين، فالوعي الواضح بأن غياب الديموقراطية خطر على المستقبل لم يتجاوز حتى الآن شريحةً ضيقةً من المصريين. والقناعة بأن "دولة القانون" شرط موضوعي للنجاح في تحسين حياة المصريين لم تكتسب القدر الكافي من الأنصار بعد، وما تزال قضية الحريات تشغل السياسيين والحقوقيين، ولا تكاد تحرك الجموع.
وهناك خوف المصريين من التحول الكبير في فاتورة أعباء الحياة اليومية. وثمّة شعورٌ واسعٌ بأن ما يسميه أنصاره "الإصلاح الاقتصادي" أدى إلى حرمان مزيد من المصريين من إحساسٍ لا غنى عنه بشيء من الأمان الاقتصادي. وبالتالي، عندما يجد الناس، وهم محاطون بحقائق في حياتهم اليومية وخطاب إعلامي يكرسان فكرة أن الموارد قليلة والأعباء كثيرة، من المؤكّد أنهم سيكونون أكثر اكتراثاً بـ"سؤال العدالة" لا "سؤال الحرية". وسؤال العدالة الاجتماعية هنا منفصل، للأسف الشديد، عن قضية الشفافية المالية التي يركّز عليها محمد علي، فالنقاشات بشأن الفيديوهات، وخصوصا خارج المنابر التقليدية، هو حديث عن "الكثير" الذي يأخذه "الكبار"، لا عن مشروعية الطريقة التي يحصلون بها على هذا "الكثير". والتأثير الأكثر وضوحاً هو حالة سخط على الحرمان أكثر من كونها موقفاً احتجاجياً على انتهاك قواعد دستورية أو قانونية أو محاسبية، فهناك، في النهاية، مال كثير يدخل جيوب قلة، والتبسيط هنا سلاح ذو حدّين.
والقناعة بأسبقية "العدالة الاجتماعية" على الديموقراطية و"دولة القانون" أحد الاختيارات الرئيسة لدولة يوليو 1952، وقد حشد جمال عبد الناصر بها حوله الملايين من دون حاجة إلى بناء تحالف سياسي بالمعنى المألوف للكلمة. يعزف اليوم الممثل/ المقاول على الوتر نفسه، ولكن بشكل معكوس، ويعيد إنتاج عملة الخوف والأمل، بوجهيها، للساخطين الذين لا مكان في وعيهم، ولا وقتهم، للنقاش بشأن القانونية والدستورية والمشروعية. ولذا فإن بعض دلالات القصص التي يرويها، تظل الجانب الأقل أهميةً عند معظم المتابعين من خارج دائرة النخبة. والمال بالنسبة للأكثرية خارج هذه الدائرة هو "مال"، ليس المهم من أي أجهزة الدولة يخرج، المهم أنهم محرومون منه. ومن هذا الباب، سيدخل مزيد من المصريين معترك الاهتمام السياسي، ولكن تحول أولوياتهم باتجاه أن تصبح أكثر اتساقاً مع منطق الأمور، كما تعرفه الدول الديموقراطية، سيستغرق وقتاً.
عندما يدرك أكثرية المصريين أن المال ينبغي أن يتحرّك وفقاً لتصور سياسي، ستحتل قضية الديموقراطية موقع الصدارة محل قضية العدالة الاجتماعية. وعندها، على سبيل المثال، ربما تصبح كتابات مفكر مثل إمام عبد الفتاح إمام، صاحب التحفة الرائعة، كتابه "الطاغية"، منافساً حقيقياً لفيديوهات محمد علي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.