وبعد أن فاض به الحال من الخنازير والحمير والخراف، وحتى من أصدقائه، قرَّر "ماونتن" في نهار صيفيّ شديد الحرارة مغادرة الحظيرة للأبد. لم يكن ماونتن ليغادر في صمت أبداً، فما يلوج في صدره ويدور في خلده كان أكبر من طاقته للكتمان. لذا وقف على كومة قشٍّ كانت وُضعت في نصف الحظيرة لتفصلَ بين التحالف وباقي الحيوانات، ثم شرع في الزعيق قائلاً: ليس عليَّ أن أهادن الخنازير، أو أن أطأطئ للخراف، ولن يمتطي ظهري حمارٌ بعد اليوم.
كان ماونتن في حالة هستيرية وعصبية متشنِّجة للغاية، كان ينتفض جسدُه بشكل مثير للشفقة وهو يُعلن انعتاقه من النظام الاجتماعي القديم الذي وضعه التحالف. صاحب مشاعر الغضب والقرف والتمرد لذة غريبة سرت في أطرافه، كان ينعتق من وجوده القديم إلى وجودٍ جديد، كانت مظاهر الألم بادية على وجهه لكنها كانت آلام الميلاد الجديد. كان ماونتن يحاول استمالة كلِّ من لديهم مَيْل أو شوق للحرية، لكنه لم يُرد أن يسير في دربه حيوان لأنه يكره التحالفَ فقط، كان يريد أن ينشئ تحالفاً من العارفين، السائرين على منهاج صاحب الحديقة الأول.
نظر في أعين باقي الحيوانات، لكنه لم يرَ سوى مشاعر الخوف، والرعب، والقرف، والحزن، والشفقة في أعين باقي البهائم. صُدم من رِدَّة فعلِهم المدجّنة والمنبطحة، ثم عاد للنباح، لكن هذه المرة شاتماً لكلِّ من طالبه بالعدول عن أفكاره أو كتمِ مشاعره مرة أخرى.
بدأ ماونتن في السير تجاه باب الحظيرة المفتوح منذ نشأته، كان يمشي الهوينى ملكاً، بخطى مثقلة بهموم السنوات السِّت التي قضاها في الحظيرة.
ومع كل خطوةٍ تقربه من الباب، كان يزداد نباح الكلاب، كان نباحاً ممزوجاً بالبكاء. بينما كانت تُعلن الخراف أنَّ تجاوزه لعتبة الباب تعني أنَّ اللعنة ستُصيبه للأبد، وأن ربَّ الحظيرة لن يرضى عنه مهما قدَّم من قرابين بعد ذلك. أما الحمير فبدأت في النهيق والترفيص بشكل جماعي وهم ينظرون إلى الخنازير كي يمنعوا ماونتن من المغادرة.
لكن الخنازير كانت مصدومة ومشدوهة، بشكل يمنعها من التحرك أو فعل أي شيء.
لقد كان ماونتن طيلة السنوات الأخيرة مثالاً للمطيع الذي يرضى بما يُوضع أمامه من طعام، ولم يعترض يوماً عندما رَكِبَت الخِرافُ على ظهره، ولم يبدِ اعتراضاً حقيقياً عندما حبسته الخنازيرُ في ركن الحظيرة ثلاثة أشهر دون سبب مقنع، ولم يمتعِض عندما كلَّفته الحَمِير بتنظيف الأرض من رَوَثِها، ثم مسْح مؤخرتها في آخر كل ليلة.
لكن ماونتن الذي بدأ في الانزواء خلالَ الأشهر الستة الماضية، كان قد بدأ رحلة استكشافٍ لذاته، مختلفةً عن باقي الكلاب والحيوانات في الحظيرة. رحلةً كانت عصيبة للغاية، كاد يفقد فيها عقلَه عدة مرات، كما كان على وشك الانتحار في عدة مناسبات أخرى، لكن ماونتن كان يعلمُ أنه في حال وصل إلى محطته الأخيرة في هذه الرحلة بسلام فإنَّ حيواناً ما لن يقدر على إيقافه أو ردعه. لأنه صار ببساطة خارجَ النظام الاجتماعي المطبق بأكمله، فهو لا يرتدع بعقوباته ولا ينجذب لمغرياته، كما أنه يفهم خطابه، لكن يرفضه ويرفض وصايته الأخلاقية على الحيوانات القاطنة في الحظيرة. لم يعد ماونتن ذلك الكلب الذي دخل الحديقةَ يومَ نشأتِها، صار كلباً آخرَ على الإطلاق. وفي خضمِّ رغبته في الانفصال عن صورتِه الذهنية السابقة، المرتبطة بالوداعة والطاعة، قام ماونتن بحلق جميع شعره وتقليم أظافره وسحب أذنه اليمنى قليلاً إلى الوراء.
(2)
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.