تحالُف البهائم العليا: ماونتن مجنون.. جداً

عربي بوست
تم النشر: 2019/09/18 الساعة 17:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/09/19 الساعة 14:02 بتوقيت غرينتش
شكل توضيحي لمنظر طبيعي تخيلي تم رسمه باستخدام ألوان هادئة

كانت الحظيرة الواقعة في جنوب الوادي الأزرق مِلكاً لرجل عجوز، وصل إلى أرذل العمر أو قد مات بالفعل. فالعجوز الجالس على الكرسي لم يحرك ساكناً منذ اليوم السابع الذي انتهى فيه من تأسيس الحظيرة. لقد كان عملاً متعباً وشاقاً لكن المنتج النهائي كان آية في الإبداع. كان العقد الاجتماعي للحظيرة يقوم على مبدأ الحرية التامة لكافة الحيوانات، وأنه كمالك ومؤسس للحظيرة لن يتدخل في شؤونهم على الإطلاق، وأنها -أي الحيوانات- لها مطلق الحرية في التصرف كما تشاء، وأن دوره سيقتصر على توفير الماء والتبن والعلف لجميع الحيوانات دون استثناء، لكنه لن يتولى عملية التوزيع أو التقسيم، وأن على الحيوانات الاعتماد على نفسها، وكانت حكمته من ذلك أنَّه لن يعيش أبد الدهر، وأنه ميتٌ لا محالة، وبناء عليه يجب على البهائم الاعتماد على نفسها لخلق حالة من التعايش الحيواني السلمي فيما بينها.

في اليوم الثامن من تأسيس الحظيرة قرَّرت الخنازير إنشاء تحالف اجتماعي مع الحمير والخراف، سُميّ التحالف بـ "تحالف البهائم العليا"، وشرع التحالف في وضع قواعد اجتماعية لشكل العلاقات الاجتماعية بين فصائل الحيوانات المختلفة، كما أُعطي حقُّ الكلام لبعضهم، وسلب من البعض الآخر، كما جرَّم التحالفُ محاولات الخروج من الحظيرة على الجميع، وأنه لا مغفرة لمن يهرب من الحظيرة ويحاول العودة مرة أخرى. كما قام التحالف بتوزيع المياه والتبن والعلف بشكل غير متساوٍ على الإطلاق، إذ يحصل التحالف على ثلثي الموارد، بينما يوزَّع السُّدس على باقي الحيوانات، ويخزَّن السدس الأخير ليوم حاجة.

وبعد أن فاض به الحال من الخنازير والحمير والخراف، وحتى من أصدقائه، قرَّر "ماونتن" في نهار صيفيّ شديد الحرارة مغادرة الحظيرة للأبد. لم يكن ماونتن ليغادر في صمت أبداً، فما يلوج في صدره ويدور في خلده كان أكبر من طاقته للكتمان. لذا وقف على كومة قشٍّ كانت وُضعت في نصف الحظيرة لتفصلَ بين التحالف وباقي الحيوانات، ثم شرع في الزعيق قائلاً: ليس عليَّ أن أهادن الخنازير، أو أن أطأطئ للخراف، ولن يمتطي ظهري حمارٌ بعد اليوم. 

كان ماونتن في حالة هستيرية وعصبية متشنِّجة للغاية، كان ينتفض جسدُه بشكل مثير للشفقة وهو يُعلن انعتاقه من النظام الاجتماعي القديم الذي وضعه التحالف. صاحب مشاعر الغضب والقرف والتمرد لذة غريبة سرت في أطرافه، كان ينعتق من وجوده القديم إلى وجودٍ جديد، كانت مظاهر الألم بادية على وجهه لكنها كانت آلام الميلاد الجديد. كان ماونتن يحاول استمالة كلِّ من لديهم مَيْل أو شوق للحرية، لكنه لم يُرد أن يسير في دربه حيوان لأنه يكره التحالفَ فقط، كان يريد أن ينشئ تحالفاً من العارفين، السائرين على منهاج صاحب الحديقة الأول.

نظر في أعين باقي الحيوانات، لكنه لم يرَ سوى مشاعر الخوف، والرعب، والقرف، والحزن، والشفقة في أعين باقي البهائم. صُدم من رِدَّة فعلِهم المدجّنة والمنبطحة، ثم عاد للنباح، لكن هذه المرة شاتماً لكلِّ من طالبه بالعدول عن أفكاره أو كتمِ مشاعره مرة أخرى.

بدأ ماونتن في السير تجاه باب الحظيرة المفتوح منذ نشأته، كان يمشي الهوينى ملكاً، بخطى مثقلة بهموم السنوات السِّت التي قضاها في الحظيرة.

ومع كل خطوةٍ تقربه من الباب، كان يزداد نباح الكلاب، كان نباحاً ممزوجاً بالبكاء. بينما كانت تُعلن الخراف أنَّ تجاوزه لعتبة الباب تعني أنَّ اللعنة ستُصيبه للأبد، وأن ربَّ الحظيرة لن يرضى عنه مهما قدَّم من قرابين بعد ذلك. أما الحمير فبدأت في النهيق والترفيص بشكل جماعي وهم ينظرون إلى الخنازير كي يمنعوا ماونتن من المغادرة.

لكن الخنازير كانت مصدومة ومشدوهة، بشكل يمنعها من التحرك أو فعل أي شيء.

لقد كان ماونتن طيلة السنوات الأخيرة مثالاً للمطيع الذي يرضى بما يُوضع أمامه من طعام، ولم يعترض يوماً عندما رَكِبَت الخِرافُ على ظهره، ولم يبدِ اعتراضاً حقيقياً عندما حبسته الخنازيرُ في ركن الحظيرة ثلاثة أشهر دون سبب مقنع، ولم يمتعِض عندما كلَّفته الحَمِير بتنظيف الأرض من رَوَثِها، ثم مسْح مؤخرتها في آخر كل ليلة.

لكن ماونتن الذي بدأ في الانزواء خلالَ الأشهر الستة الماضية، كان قد بدأ رحلة استكشافٍ لذاته، مختلفةً عن باقي الكلاب والحيوانات في الحظيرة. رحلةً كانت عصيبة للغاية، كاد يفقد فيها عقلَه عدة مرات، كما كان على وشك الانتحار في عدة مناسبات أخرى، لكن ماونتن كان يعلمُ أنه في حال وصل إلى محطته الأخيرة في هذه الرحلة بسلام فإنَّ حيواناً ما لن يقدر على إيقافه أو ردعه. لأنه صار ببساطة خارجَ النظام الاجتماعي المطبق بأكمله، فهو لا يرتدع بعقوباته ولا ينجذب لمغرياته، كما أنه يفهم خطابه، لكن يرفضه ويرفض وصايته الأخلاقية على الحيوانات القاطنة في الحظيرة. لم يعد ماونتن ذلك الكلب الذي دخل الحديقةَ يومَ نشأتِها، صار كلباً آخرَ على الإطلاق. وفي خضمِّ رغبته في الانفصال عن صورتِه الذهنية السابقة، المرتبطة بالوداعة والطاعة، قام ماونتن بحلق جميع شعره وتقليم أظافره وسحب أذنه اليمنى قليلاً إلى الوراء. 

(2)

تزامَن مع مغادرة ماونتن للحظيرة اجتماعٌ مغلق للهيئة العليا للتحالف، استمرَّ الاجتماع قرابة الـ16 ساعة، ليتوصلوا إلى قناعة مفادها: أنهم لم يفهموا شيئاً مما فعله ماونتن، وأنهم ليسوا قادرين على تفسير حالته التي ظهر عليها؛ لذا قرَّرت الهيئة العليا للتحالف إعلان ماونتن مجنوناً، وأنه يجب وضعه في أقرب مصحة نفسية. 

في النصف الآخر من الحظيرة كانت باقي الحيوانات تنظر إلى بعضها البعض في حيرة وقلق، بعضهم لم يرَ في ماونتن سوى النسخة الشجاعة من نفسه، نسخة قادرة على فعل أي شيء دون رهبة أو خوف من عقاب أو عذاب. والبعض الآخر، وافق على رواية التحالف الأعلى للبهائم، وأقرُّوا بأن ماونتن مجنون بالفعل، وأنه لا يمكن محاسبته على أفعاله أو أقواله. لم يعلم أحد الحقيقة، لم تكن هذه المصيبة؛ بل المصيبة أنَّ أحدهم لم يفكر أو يناقش أو يحاول استيعاب أو النظر فيما قاله ماونتن حتى اللحظة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حذيفة حمزة
كاتب ومحرر
محرر، وباحث في علم الاجتماع الرياضي