«ما أكهنك»

عربي بوست
تم النشر: 2019/09/17 الساعة 08:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/09/17 الساعة 08:39 بتوقيت غرينتش
إيلي كوهين

تذكرت أثناء متابعة مسلسل (الجاسوس) الذي تقوم بعرضه شبكة نتفلكس مصطلحاً يكرره السوريون دائماً، وذلك عندما يريدون وصف الرجل المخادع والخبيث، ولكن إذا قمنا بالعودة إلى معجم اللغة العربية فسنجد أن معنى كلمة (كهن) هو التسامي روحياً.. أو القدرة على قراءة الغيب ومعرفته.

إذن فمن أين جاء السوريون بهذا المصطلح والذي يعني (الكهين: المخادع والخبيث)؟

درجت هذه الكلمة على ألسنة السوريين خاصة، ومنها انطلقت إلى عدة دول عربية، وذلك بعد إلقاء الحكومة السورية في منتصف الستينيات القبض على (كامل أمين ثابت)، الجاسوس الإسرائيلي في سورية، ثم قامت بإعدامه في ساحة المرجة كاشفة عن اسمه الحقيقي (إيلياهو كوهين)، لتصبح هذه القصة الشغل الشاغل للسوريين سواء من العامة أو النخبة، وتحولت قصة كوهين الجاسوس إلى حديث المجالس والصحف والمدارس، ومن هنا أصبح السوريون يطلقون على كل شخص مخادع وخبيث (كوهين).

أردت الانطلاق بالمقولات الشعبية في الكتابة عن هذه الشخصية التي لطالما أرادت الحكومات على مختلف توزعها الإقليمي الاستفادة منها لتصديرها إلى شعوبها كنوع من الانتصار، لذلك من الصعب جداً معرفة حقيقة ما جرى لتنوع القصص التي أحاطت بشخصية إيلي كوهين.

الحقيقة غير ثابتة، على عكس الاسم الذي اختارته إسرائيل له، بل هي مجزأة وموزعة بنسب متفاوتة بين مرويات السوريين والإسرائيليين من جهة، وبين من تطرق للكتابة عن هذه الشخصية في أجزاء مطولة من سيرهم الذاتية..

لذلك، ولتفادي الوقوع في فخ العنترية القومية، أو في كماشة الانصهار في الثقافة الغربية، سأنطلق من فكرة تركيب أجزاء الحقيقة المتناثرة وترتيبها وتصفيفها من دون إضافة مساحيق لتجميلها ومن دون نفخها ببوتوكس المبالغة.

إسرائيل وظفت عميلاً لها في سوريا.. حقيقة.

سوريا ألقت القبض عليه بعد خمس سنوات.. حقيقة.

كوهين اخترق النظام العسكري والسياسي السوري.. حقيقة.

كوهين كاد يصل إلى منصب وزارة الدفاع السورية.. حقيقة.

ما بين تلك الوقائع تعوم الكثير من التفاصيل، والتي تعتبر الملعب المفضّل للعبث بالحقائق وتشويهها وتوجيهها بما يتناسب مع صاحب القصة، فقد علمتنا قراءاتنا أن التاريخ يكتبه المنتصرون، أما بالصراع العربي الإسرائيلي عموماً، والسوري الإسرائيلي خصوصاً، لم يتحدد بعد من هو المنتصر، فالنظام السوري وصديقه اللدود إسرائيل هم في حالة من اللاحرب واللا سلم والتي تمنع قيام أحد الجيشين برفع أعلامه وإعلان انتصاره وبالتالي كتابة قصص الانتصار..

لم يكد يمضي على انتصار النظام البعثي سنتين في معركة تصفية عميل إسرائيل، حتى ردت الأخيرة بانتصار حزيران الذي وصفه العرب بالنكسة والتي خسروا بها أجزاء كبيرة من أراضيهم، و مع ذلك لم يعلن أحدهم النصر المؤزّر ولم يرفعوا أعلام الانتصار النهائي لحاجة كل منهم لعداء الآخر في تثبيت شرعيته.

بالعودة إلى لحظة إلقاء القبض على كوهين، تقرأ بالصحف السورية إن المكتب الثاني أو ما يطيب للنظام السوري تلقيبه بالأجهزة المختصة، هم من قاموا بالتقاط الشيفرة وتتبعها إلى أن أوقعوا العميل بالأسر.

وعلى المقلب الثاني من طبريا، تقرأ الصحف العبرية التي تعطي كل الأفضلية للمخابرات السوفياتية سابقاً بإعطاء المعلومات عن هذا العميل.

ولا تذهب بعيداً، ستقرأ في الصحف المصرية أن عميلهم رأفت الهجان هو من أسرّ في أذن الضباط السوريين عن وجود كوهين في دمشق!

أين هي الحقيقة؟ لا نعرف ولا أعتقد أننا سنعرفها قريب، ولكن ما نستطيع استنتاجه أن انتصار السوريين كان كلحظة سكر صحوا منها مع بزوغ فجر ثان، لتأتي الفكرة.

أما في إسرائيل، فلم يكد الأكسجين ينفذ من عروق كوهينهم حتى سارعوا إلى تجهيز كوهين جديد، من هو؟ لا أحد يستطيع الجزم باسمه الحقيقي أو الوهمي أو صفاته، أو إن كان مازال حيّاً او ميتاً، وما الذي استطاع تقديمه أو عجز عن تقديمه إلى موطنه إسرائيل، و لكن ما نستطيع الجزم به هو الآتي:

في صيف عام ١٩٦٧، انسحب الجيش السوري من الجولان وتم تسليمه إلى إسرائيل من دون أي  قتال. في خريف ١٩٧٠ وصل إلى رأس السلطة وزير الدفاع الذي سلّم الجولان قبل ثلاث سنوات.، بعد ثلاث سنوات وتحديداً في تشرين ١٩٧٣ استعاد هذا الشخص مدينة القنيطرة كمكافأة على حسن عمله وولائه.

في صيف ١٩٧٦ قامت إسرائيل بالهمس بأذن كيسنجر بالسماح لصديقها بدخول لبنان وتقاسم هذا البلد معهم بمعادلة: الأرض لهم والسماء لنا، لتثبيته لاعباً إقليمياً يملك أدوات للتفاوض عليها.

في شتاء ١٩٨٢ طلبت إسرائيل من المجتمع الدولي غض البصر وحفظ اللسان عن ما سيجري في حماه السورية، وذلك لإعطاء السوريين صفعةً لن يصحوا منها على الأقل خمسين عاماً.

في صيف ١٩٩٠ طلبت إسرائيل من الولايات المتحدة القبول بدخول الجيش السوري لتحرير الكويت وذلك لفك العزلة الدولية عن صديقها المتحالف مع النظام الإيراني الحديث السلطة في معركته ضد أعتى الجيوش العربية.

في صيف عام ٢٠٠٠ مات الملك، عاش الملك.. لم تكد مراسم الدفن تنتهي، حتى قامت إسرائيل بإرسال مباركتها في حقيبة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية لنقل السلطة من الأب إلى الابن.

في خريف ٢٠٠٥، استيقظ العالم على نبأ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري والذي قتله الابن بواسطة عملائه في لبنان لتفريغ الساحة السياسية من عملاق سُنّي كاد أن يطيح بأحلام من أراد لهذه الأمة أن تمتد غفوتها.. لم تمر سنتان على هذا الاغتيال حتى انبرت إسرائيل بكل طاقاتها وجهودها وعلاقاتها العامة لإعادة تعويم ابن صديقهم لتكون زيارة باريس في يوليو/تموز ٢٠٠٧ وحضور جنازة يوحنا بولص الثاني في روما بعدها بمثابة الثغرة التي أخرجت إسرائيل ابنها ليرى العالم ويراه.

في ربيع ٢٠١١ خرج الشعب السوري في ثورة عارمة لإسقاط الابن، ليتسابق العالم، كل العالم لحمايته من السقوط بعد أن بات قريباً في نهاية ٢٠١٢.

فغضت إسرائيل عينها وفقأت عيون من أراد النظر إلى ابنهم لإعطائه الضوء الأخضر بإنهاء الثورة السورية بكل ما يملكه من إرث مبني على الحقد والكره والتبعية.

بعد كل هذا وذاك، وبعد الحديث المفصّل عن ما قامت به إسرائيل لحماية عميلها وابن عميلها، هل سيستغرب أحد إن استبدل السوريون مصطلح ما أأسدك، بمصطلح ما أكهنك!

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

زياد الصوفي
كاتب سوري
كاتب سوري