في الداخل سحق النظام السعودي الحركات الدينية الإصلاحية، واختطف كبار الإصلاحيين دون اكتراث للقانون. وبدا النظام في أعين مواطنيه متوحشاً وأحادياً ولا يعطي لفكرتي القانون والعدالة وزناً. كان اختيار العدالة والقانون ليكون طريقاً جيداً في سبيل تعزيز فكرة "الملك الإصلاحي"، أو القائد الذي يفتح بلاده على العالم كما قالت الدعاية اللندنية قبل عام. غير أن القائد الجديد اختار طريقاً محفوفاً بالمخاطر: ملأ الحواضر بحفلات الموسيقى، واتجه خارجياً إلى إسرائيل، معتقداً أن هذين المشهدين سيغسلان سمعة بلاده الغارقة في الظلام.
على سبيل المثال لا الحصر، يقول تقرير للاتحاد الأوروبي، 2013، إن السعودية انفقت 10 مليارات دولار على الجماعات الدينية الراديكالية في وسط وشرق آسيا، وأن جزءاً من ذلك المال راح للجماعة التي ارتكبت مذبحة بومباي. وذلك ما لم تسع السعودية إلى إصلاحه.
صار، في ظروف معينة، بن زايد عرّاب أكبر البلدان، والحاكم دي فاكتو لأرض الحرمين. نجح في دحر خصومه السعوديين وجاء بشاب بلا تاريخ ليجلس على ذهب العالم وسلاحه. لم تكن حرب اليمن خطيئة السعودية القاتلة بل سقوط اليمن في القبضة الحوثية، وبالضرورة الصندوق الإيراني. ضمن معاونة مباشرة من السعودية، لم تكن خفية آنذاك، سلك الحوثيون طريقهم إلى صنعاء. ساعة حصار صنعاء كان بن زايد يلتقط الصور مع وزير الدفاع اليمني آنذاك "محمد ناصر"، الذي عاد من أبوظبي فأعلنت قواته الحياد الشامل أمام الحوثيين. كانت السعودية متأكدة أن مصلحتها الاستراتيجية تتطلب تقويض مشروع الدولة الجمهورية في اليمن. مثلما اعتقدت قبل ذلك أن تقويض الدولة الديمقراطية في مصر لصالح جمهورية عسكرية هو فعل من شأنه أن يضيف إلى دالة الأمن خاصتها. تجلس السعودية الآن وسط الجزيرة العربية بلا أصدقاء. الإمارات، بالمعنى الاستراتيجي، ليس تعويضاً عن أي مستوى من الخسارة. إنها لا يمكن تعويضها حتى عن خسارتها لقناة الجزيرة التي لزمت الصمت التام حيال المشهد السعودي بكل مستوياته وعلى مر الأيام.
الدخول في المجهول
دخلت السعودية إلى المجهول بمعناه الشامل، وتاهت في زحمة الحسابات الخاطئة وفقدان الاستراتيجية. في الأيام الماضية شوهد "الحرم" السعودي وقد اضطرمت فيه النيران. بات في حكم البديهي أن الإيرانيين هم من قصف الحرَم السعودي أرامكو. فالرواية الحوثية التي تتحدث عن عشر طائرات مسيرة قطعت مسافة 1600 كم دون أن يلاحظها أحد هي رواية رثة ولا تصلح حتى لبيعها داخلياً. لو أن ذلك حدث قبل عشرة أعوام لكانت أمريكا تحشد العالم خلفها للانتقام من عبث إيران باستقرار السوق العالمية. أساءت السعودية تقدير أهميتها في عالم اللحظة الراهنة. كرر ترامب في الأيام الماضية التأكيد على أن السعودية لم تعد مهمة استراتيجياً بالنسبة لبلده، ولكنها ستبقى حليفة كما قال. وبالطبع، مثل باقي الحلفاء. يقترب موعد الانتخابات الرئاسية في أمريكا، وأي خطيئة كبرى ينزلق إليها ترامب ستكلفه الكثير. لإيران، التي تعمل كنظام شامل، دراية عامة بالطريقة التي يفكر بها عقل البيت الأبيض. وهي تعرف جيداً متى تستخدم قبضتها الضعيفة. بينما اعتقد بن سلمان أنه وضع كوشنير، صهر الرئيس، في جيبه كما ردد مراراً. إن حسابات نظام مركب كنظام الحكم في أمريكا لا تشبه بأي شكل جملة وضعته في جيبي. صحيح أن النفط السعودي لا يزال مهماً لمناطق كثيرة من العالم، غير أن تلك الأهمية أيضاً نسبية. العالم تعبير شامل يصعب تحديد معناه. في عالم بلا معنى ثابت سيكون من الصعب أن تغامر في المضي فيه معتمداً على فرضيات قديمة عن القوة والقدرة والخطر.
لن ينقذ السعودية من ورطتها سواها، أن تعترف بأن دفتر حساباتها القديم لم يعد صالحاً لهذه اللحظة، وأن فرضياتها السابقة فقدت قوتها. حتى وقت قريب كانت لا تزال قادرة على تشكيل الأحلاف بسرعة فائقة لا تدانيها سوى قدرتها على تدمير تلك الأحلاف. فبعد يوم واحد فقط من القمة الإسلامية التي دعت إليها، صيف 2017، خطت خطوة إلى الأمام قوضت من خلالها مجلس التعاون الخليجي، ثم التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن. في الصورة النهائية تبدو السعودية مسرحاً للاعب واحد، لاعب شاب بلا تاريخ اعتقد أن بمستطاعه أن يمسك بكل الملفات وينجو ببلده. وكلما تورط في لعبة حرجة قال إنها "مشكلة صغيرة جداً" إلى أن قادت المشاكل الصغيرة إلى اشتعال النيران في بلده من الجنوب حتى الشرق.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.