في زيارة قصيرة لإحدى قرى الساحل الشمالي وأثناء عبوري لبوابة القرية السياحية، شعرتُ للوهلة الأولى بأنني لا يُفترض بي أن أكون موجوداً هنا، فبقائي هُنا ليومٍ واحد قد يكلفني أكثر مما يجنيه موظف حكومي، من الطبقة الوسطى، في شهر كامل. بينما بدا لي أن أغلب من وقعت عليهم عيني من المتواجدين في هذا المكان باستطاعتهم صرف ذلك المرتب في سهرة عابرة في أي ديسكو أو نايت كلوب.
بمجرد تجاوز البوابة لم تعد الاختلافات في الدخول والرواتب هي أهم ما يشغلني، لكن صرت مشغولاً بحجم الاختلافات فيما يطلق عليه "الفضاء الثقافي". وهو الذي ينعكس في شكل الملابس وأنواعها، السيارات، الشاليهات، المطاعم، وحتى اللغة. فهذه جميعها منتجات ثقافية يمكنها أن تُميز مالِكها عن كل ما وراء الأسوار والبوابات. فهنا تختلط الإنجليزية المتقنة بالعربية الركيكة، وتختفي كل أنواع الملابس المُفضلة للوعاظ وحُراس أخلاقيات الفقراء. يأخذ الجميع هنا راحتهم دون قلق من أي مضايقات سواء من عموم الشعب أو الأمن، فحضورك في هذا الفضاء يعطيك إحساس زائف باليوتوبيا وكأن توماس مور، مبتدع مفهوم اليوتوبيا، قد مرّ من هنا. لكن اليوتوبيا هي المكان المُتخيل حيث تختفي فيه كل عوائق وكوارث وبؤس الواقع الزماني والمكاني، بينما الديستوبيا هي واقعنا الحالي من نظرة أهل اليوتوبيا الساحلية لجميع سُكان الواقع الجحيمي خارج أسوار القرية.
الكومباوند داخل الكومباوند
قصة هذا المكان طريفة للغاية ومُقدمة لكل ما وصل له حالياً وما أقصده من إحساس زائف بالكمال والحرية. تبدأ القصة بتقديم الرئيس الراحل أنور السادات لتصور لمستقبل مصر فيما عُرف بـ "ورقة أكتوبر". وفيها توصية بتعمير الساحل الشمالي من منطقة الكيلو 34 حتى الكيلو 100 عند مدينة العلمين تحت إشراف وزارة التعمير، وتولى مكتب استشاري أمريكي/هولندي مع عدد من الخبراء المصريين التخطيط لتجمعات سياحية عملاقة، على غرار تلك الموجودة على شواطئ البحر المتوسط في الدول الأوروبية. مع توفير تجمعات زراعية وإنتاجية لسكان المناطق المحيطة بداية من برج العرب والعامرية وحتى مطروح، فولدت القرية الأولى "مراقيا" لكنها وُلدت ميتة، فخلافاً لكل المخططات وللرؤى المفترضة لإنشاء مشروع سياحي ضخم، قامت القرية بالأساس على عدد من الكبائن والشاليهات المصممة عشوائياً والمحجوزة مسبقاً لكبار موظفي الدولة الكبار. ثم ظهرت عربة أخرى للقطار الساحلي وهي "مارينا" ذات القرى الست وهي التي تمددت حتى الكيلو 111 لتستكمل مسيرة مراقيا، فيتم صبّ الخراسانات لمزيد من الشاليهات والفلل وحتى القصور، لتنتهي إلى نموذج سكني عشوائي مُكدّس ومتلاصق دون تخطيط. وبإنفاق ما يزيد على الأربعين مليار دولار تلبيةً لرغبات كبار المسؤولين وأصدقائهم من كبار العائلات وأصحاب الشركات والمصالح لتصلح سكناً فقط لشهرين في السنة، فهو بحق المشروع الأمثل لإهدار المصريين أموالهم كما وصفته النيويورك تايمز سابقاً.
وبمرور السنوات تتمدد قرى الساحل بعد مارينا عملاً بفكرة "الكومباوند داخل الكومباوند"، فأبناء الفئة 1% (الأعلى دخلاً) يريدون الانفصال عن أبناء فئة 10% من المصريين (ممن يمتلكون 91% من الثروة). فكلما تركز الكثير من الثروة في يد الأقلية وتنقلت داخل العائلة مرفوع عنها أي ضريبة، ازدادت الحاجة لمزيد من الأسوار والتعقيدات لدخول أماكن تلك القِلة وطرد، وضرورة فرض هذا الحاجز الثقافي على الأغلبية، وكأن هناك قطاراً للطبقات كلما تقدمت من عربة إلى أخرى ازداد البشرُ في الحقوق والقوة كما في فيلم "محطم الثلج snowpiercer".
في الفيلم الكوري الأمريكي "snowpiercer" المقتبس عن رواية فرنسية " Le Transperceneige" ومن إخراج بونغ جون هو، تدور أحداث الفيلم في عام 2031 فنتيجة لتفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري ومحاولة الإنسان السيطرة عليها، نتج عصر جليدي آخر وأدى لانقراض البشرية ونجا من هذا الانقراض مجموعة قليلة جداً من البشر، هي التي نجحت في سكن قطار ضخم يتنقل طول العام ولا يتوقف على مسار سكة حديد مُتصل يديره المُهندس العبقري ويلفورد، وينقسم القطار إلى طبقتين: الأولى وهي الطبقة العليا التي تملك كل شيء والتي تسكن العربات التي في المُقدمة وتنتهي عند المُحرك الذي يديره المهندس، والأخرى هي الطبقة التي لا تمتلك أي شيء وتسكن في ذيل القطار وتحيا في ظروف قاسية جداً تحت حراسة وسُلطة على الأجساد والعقول لا ترحم، وبين الطبقتين يوجد تنوّع طبقي كبير من الحرس والمديرين والموظفين يتوسطون بين سكان الطبقتين، وتعتمد تلك التشكيلة الطبقية على ثلاث قصص: المُحرك هو شأن إلهي ومقدس يديره ويلفورد الرحيم، لكي نحيا جميعاً يجب أن يكون هناك نظام سياسي وأيكولوجي (بيئي) صارم حتى لا يختل التوازن، وكل من يخالف هاتين القصتين مصيره الموت داخل القطار أو خارجه حيث تنخفض درجات الحرارة أكثر فأكثر.
وفي فترة يقرر سكان ذيل القطار التمرد والوصول إلى مقدمة القطار بمساعدة متخصص في نظام الأبواب، وبعد كثير من المعارك والتضحيات يصل البطل لمقابلة ويلفورد وعندها يكتشف القصة الرابعة والحقيقة الوحيدة، وهي أن ثورته كانت بتخطيط من ويلفورد نفسه في جزء كبير منها؛ لإعادة إنتاج التراتب الطبقي والنظام الأيكولوجي لكنه هو الذي تمادى، وأن المُحرك ليس مقدساً إنما معيوباً يحتاج لمن يديره بشكل مباشر ويكرر تلك العملية كل فترة وأنه قد وقع عليه الاختيار للقيام بتلك الوظيفة بديلاً لويلفورد المريض.
أخذت تلك الفجوة بين الفقراء والأغنياء في الاتساع تحديداً من منتصف السبعينات وأوائل الثمانينات، في تلك الفترة تحولت "الليبرالية الجديدة" من مجرد نظرية في الاقتصاد السياسي يُناقشها الأكاديميون، إلى أجندة يتم تطبيقها سياسياً واقتصادياً في أمريكا وأوروبا ثم تنتشر إلى كل مكان اعتماداً على سياسات العولمة والشركات العابرة للقارات وبرامج صندوق النقد الدولي، وفكرتها بسيطة للغاية كما يشرحها أحد عرابيها "ميلتون فريدمان"، فالثروة يجب أن تتركز في يد القِلة من البشر ويتم توريثها داخل العائلة الواحدة بدلاً من أن يتم توزيعها على أغلبية السكان من خلال الضرائب، لتصبح تلك الفئة معنية بالاستثمارات وإنشاء المشاريع وتطوير التكنولوجية حتى ينتفع بها المجتمع، وهو الأمر الذي أخذت تُكذبه كل الإحصائيات والدراسات الاقتصادية على مدار العقود الأولى من هذا القرن.
يُمكننا أن ندرس سياسات اللامساواة وحجم تأثيرها الفعلي على المجتمعات وعلى إمكانيات التخلص منها من خلال ما يسمى "التحليل الطبقي"، فالطبقة لفظة وصفية يمكن من خلالها تحديد أهم بنى المجتمع ووعيه وممارساته السياسية والاقتصادية، يقول إريك أولن رايت (الباحث المتخصص في التحليل الطبقي): "عندما تكون الحقوق والقوى التي يمارسها الأفراد على الموارد الإنتاجية موزعة توزيعاً غير عادل، أي عندما يحوز بعض الأفراد قدراً أكبر من الحقوق والقوى فيما يخص أدوات الإنتاج مما يحوزه الآخرون، يكون بالإمكان وصف هذه العلاقات بأنها علاقات طبقية".
التناقض في المجتمعات الرأسمالية قائم بين مالكي قوى الإنتاج (الطبقة العليا) ومالكي قوى العمل (العمال وأبناء الطبقة المتوسطة). فالملكية هي وصف الحقوق والقوى المتعلقة بما يُستخدم في الإنتاج أي أن ما تملكه يحدد ما يتعين عليك عمله لتحصل على ما تحصل عليه، فإن كنت من فئة الـ1% فإنك تملك رؤوس الأموال وحق التلاعب في عمليات الانتخاب وتشكيل عقول المواطنين، أما إن كنت من فئة الأغلبية فأنت على الأرجح تملك قوتك التي تعمل بها فقط.
لكن أهم ما يُميز تلك العلاقات الطبقية هو الاستغلال، فالطبقة المُستغِلة لا يُمكنها التخلص من الطبقة المُستغَلة لأنهم في حاجة لقوى عملهم كي يحافظوا على مكانتهم الطبقية، وعن تلك العلاقة فقط يُمكن للمُستغَلين تنظيم أنفسهم والمقاومة لفرض شروطهم وكسر سياسات اللامساواة اعتماداً على وعيهم الطبقي. تماماً كما قرر بطل snowpiercer في النهاية أن يُدمر مُحرك القطار، وألا يستسلم لسياسات اللامساواة وإعادة إنتاجها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.