المخابرات العامة في مواجهة القوات المسلحة.. هذا ما لم يخبرك به محمد علي

عربي بوست
تم النشر: 2019/09/13 الساعة 18:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/09/13 الساعة 18:27 بتوقيت غرينتش

خلال الأسبوع الماضي، شاهد أغلب المصريين مقاطع فيديو للمقاول محمد علي عبدالرحيم، الذي كان يعمل مع الجيش المصري ثم سافر إلى إسبانيا؛ بعد أن امتنعت القوات المسلحة عن سداد مستحقات له تقدَّر بـ300 مليون جنيه، فيمة مشاريع كان ينفذها بصفته مقاولاً من الباطن؛ ومن ثم اتجه إلى الحديث عن تفاصيل بعض المشاريع التي كان ينفذها لحساب عبدالفتاح السيسي وقادة القوات المسلحة، ثم شرح كيف تدير وتسيطر وتحتكر القوات المسلحة قطاع المقاولات في مصر.

هنا لن أتحدث عن فيديوهات محمد علي بحد ذاتها، أو لن يكون التعقيب مركِّزاً عليها بقدر ما سأحاول رسم إطار معلوماتي يمكِّننا من فهم السياق الذي تأتي فيه تسجيلات محمد علي، وكيف بإمكاننا تكوين صورة أكبر لديناميات عمل السلطة التي تحكم مصر حالياً، وهو ما سيمكِّننا من فهم كيفية التعامل مع تلك السلطة.

طبيعة عمل مقاولات الباطن بمصر

كان لنا تحقيق مفصل مسبقاً بعنوان جنرالات الذهب، وفي الملف المعنون بقطاع المشروعات القومية تكلمنا بصورة عامة عن كيفية إدارة الجيش لقطاع المقاولات منذ ثلاثين يونيو/حزيران 2013.

ولعل أحد المفاتيح الأساسية لفهم التغيير الذي أحدثته القوات المسلحة في قطاع المقاولات، هو التعديلات التي تم استحداثها على قانون المناقصات والمزايدات بعد 5 أيام  فقط من عزل الرئيس الراحل محمد مرسي، حيث كان صلب التعديلات هو رفع الحد الأقصى للإسناد المباشر، وهو الأمر الذي أتاح للجيش الدخول في تعاملات مالية تقدَّر بالمليارات.

وبمقارنة نص القانون القديم مع النص الجديد، يمكن استنتاج الكثير والكثير عن أولويات القيادة العسكرية المصرية فور خطوة الثالث من يوليو/تموز. 

ولم تكتفِ القيادة السياسية الحالية بالتعديلات التي تم استحداثها في 2013، فقامت بتعديلات إضافية على نص القانون في يوليو/تموز 2018، وأقرها البرلمان المصري. 

والتعديلات التي تعنينا هنا هي المادتان 11 و12 من القانون الجديد. المادة 11 تعطي للجهات الحكومية التوسع بشكل احتكاري في التعاقد عن طريق الإسناد المباشر مع القوات المسلحة تحت دعاوى "الأمن القومي". أما التعديل بالمادة 12 فيجعل التعاقد بالإسناد المباشر رأساً مع مجلس الوزراء دون المرور بالجهات الحكومية الفرعية، مع ملاحظة أن تعديلات اللائحة التنفيذية للقانون أوسع من ذلك؛ نظراً إلى أنها تُعتمد من وزير المالية دون الحاجة لموافقة البرلمان عليها.

ماذا يمكن أن نفهم من كل هذه التعديلات؟

باختصار، نود القول إن المسار الذي اتبعته قيادة القوات المسلحة منذ انقلاب الثالث من يوليو/تموز، كان واضحاً منذ البداية. ألا وهو توسعة قاعدة المستفيدين داخل القوات المسلحة بدءاً من ضابط قائد لكتيبة إلى أعلى القيادات والرتب، باعتبار أن هذا هو ما يضمن سلامة واستمرارية النظام. وتم ذلك عن طريق الوصول إلى الحد الأقصى للإسناد المباشر، ثم إعادة تنظيم قطاع المقاولات بأكمله بدءاً من "الكارتل" أو "الميجا بيزنس" مثل شركات أوراسكوم والمقاولون العرب وأبناء علام، ثم كبار المقاولين مثل سامكو للتشييد والسعداء للمقاولات وشركة النيل الوطنية، بحيث يعمل جميعهم من خلال الجيش فقط، مع إزاحة أي جهات منافسة مثل المخابرات العامة والشركات التي تنضوي تحت لوائها.

ما لم يخبرك به محمد علي

سنعود بكم مرة أخرى إلى النصف الثاني من 2013، عندما عزل عبدالفتاح السيسي محمد رأفت شحاتة من إدارة جهاز المخابرات العامة ومعه عدد من قيادات الجهاز، وعيَّن اللواء محمد فريد التهامي رئيساً لجهاز المخابرات العامة في الخامس من يوليو/تموز، أي بعد يومين فقط من إعلان الثالث من يوليو/تموز. وبعيداً عن التكهنات حول إقالته بعد نحو عام وبضعة أشهر من تعيينه، وبعيداً أيضاً عن التكهنات التي بررت قرار التعيين، حيث قيل إن التهامي يعتبر أستاذاً لعبدالفتاح السيسي وأحد "رجال الثقة" الذين من خلالهم يستطيع السيطرة على جهاز المخابرات العامة، ولكنني أعتقد أن تلك التكهنات تبحر بعيداً عن النقطة المحورية، وهي كون فريد التهامي مديراً لهيئة الرقابة الإدارية منذ عام 2004 حتى إقالته بعهد مرسي في شهر أغسطس/آب 2012.

وبالمقطع السابع للمقاول محمد علي، تطرق سريعاً إلى دور هيئات الرقابة والنيابة الإدارية في إتمام عمليات الإسناد المباشر للقوات المسلحة، ولعل تلك هي الرسالة المكثفة في هذا المقطع والتي أراد إيصالها. إذ كانت تلك الهيئات مسرحاً لعمليات تقسيم النفوذ بين القادمين من المؤسسة العسكرية وجهاز المخابرات العامة. 

أي إن السيسي سعى من خلال كل من قيادة فريد التهامي لجهاز المخابرات العامة ونجله مصطفى الذي يتولى موقعاً قيادياً في الرقابة الإدارية، إلى تحجيم وإضعاف دورها في الرقابة الإدارية، لكن مع التوسع في نفوذها وسلطتها مقابل بقية الأجهزة البيروقراطية مثل الجهاز المركزي للمحاسبات، الذي رأينا الحال الذي انتهى إليه رئيسه السابق المستشار هشام جنينة.

فمن يتحكم في أجهزة الرقابة والمعلومات البيروقراطية هو من يستطيع التحكم في الريع الذي يمكن جنيه من داخل الدولة المصرية.

وفي ضوء هذه القراءة، فإننا نفسر ظاهرة التسريبات، التي انفجرت منذ الثلاثين من يونيو/حزيران، كإحدى نتائج هذه التنافسية وصراع القوى الداخلية للدولة المصرية. أي إن ظاهرة التسريبات عموماً هي إحدى وسائل إدارة هذا الصراع أو التنافس بين مراكز القوى الداخلية. وهنا يبرز الدرس الأهم الذي يجب استيعابه من ظاهرة التسريبات، وهو أن الرأي العام وإمكانية تحريكه وحشده وتجييشه هما أهم أداة تمتلكها أجهزة الدولة المصرية في صراعاتها وتسوية مصالحها. وما التسريب "الحميمي" الأخير لمحافظ الإسماعيلية السابق سوى مثال لذلك. 

لمزيد من توسعة فهم الصورة العامة، فقد اعتُقل مؤخراً مدير استثمار شهير (ع.ا) خلال الأشهر الماضية، وبغض النظر عما أعلن كسبب لاعتقاله، فإن السبب الحقيقي لاعتقاله هو كونه يدير محفظة مالية تعود ملكيتها إلى مراد موافي رئيس جهاز المخابرات العامة الأسبق ونسيبه محمد عرابي وزير الخارجية الأسبق. هذه المحفظة التي تقدَّر قيمتها بمئات الملايين من الجنيهات، عبارة عن مشاريع تطوير عقاري في امتداد مناطق مدينة نصر والتجمع الخامس، وهو -يا للصدفة!- الحيز نفسه والمساحة نفسها التي كان يقام بها الفرع الجديد من فندق تريومف الذي تحدث عنه محمد علي بأول مقطع فيديو له.

حادثة أخرى مثيرة للانتباه وهي إقالة اللواء محمد الكشكي مساعد وزير الدفاع للشؤون الخارجية، وهو الرجل الذي يمكن اعتباره وزير خارجية مصر الحقيقي، والرجل الذي يتمتع بالقوة والنفوذ منذ أن شغل منصب الملحق العسكري في واشنطن. وهو المنصب الذي يتيح له الإشراف على أهم الملفات حيوية لدى الجيش المصري وهو ملف المعونة العسكرية الأمريكية، كما أنه الموقع الذي سبقه فيه أهم وأقوى قادة الجيش المصري مثل المشير أبو غزالة، الذي ترقى بعد ذلك حتى وصل إلى منصب وزير الدفاع.

اللافت للانتباه أنه قبل الإعلان الرسمي للإقالة بثت قناة "مكملين" الإخوانية تسريباً يفيد بالاطاحة بالكشكي من منصبه

مع تأكيد أن أسباب إقالته مختلفة عن التي نقلتها قناة "مكملين"، إنما متعلقة بالأدوار التي يُتوقع من النظام المصري القيام بها في إطار ما يسمى "صفقة القرن" مقابل الإفراج عن قيمة المعونة الأمريكية لمصر. وبالفعل تزامن الإفراج عن المساعدات العسكرية الأمريكية مع إقالة الكشكي من منصبه. 

بعيداً عن الأسباب الحقيقية لإقالة الكشكي، ما يهم هو الرسالة التي أراد إيصالها مَن سرَّب تلك المعلومات لقناة "مكملين" حول أن إقالة الكشكي مرتبطة بتوسُّطه لدى عباس كامل للإفراج عن سامي عنان لعلة ما.

نحن لا نطرح نظرية مؤامرة هنا، ولكن السياق الذي يمكن أن يُفهم من خلاله ظهور محمد علي الحالي، وخطابه المستخدم في مهاجمة شبكة المصالح الاحتكارية التي تديرها القوات المسلحة- هو وجود شبكات مصالح أخرى تضررت من سياسات الجيش الحالية، وما محمد علي إلا أحد المتضررين.

ونختم بتوضيح آلية إرساء تعاقدات مقاولي الباطن في المشاريع التي يحتكرها الجيش بالإسناد المباشر، وهو ما يتم عادة عبر عدة خطوات؛ تقرير من جهاز الأمن الوطني وآخر من المخابرات الحربية عن الشركة التي تتقدم للمقايسة والتصميم والتنفيذ. وعادة ما يتم دفع مبالغ مالية كنوع من أنواع الرشى لكتابة تقارير توافق على الإسناد إلى هذه الشركة أو تلك. ومن ثم يتم توزيع تلك الشركات على مشاريع الجيش سواء مشاريع الجيش الداخلية داخل القوات المسلحة أو التي ينفذها الجيش كمقاول رئيسي مع الجهات الحكومية.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد حسني
مدير مركز مدارك لدراسات العمران باسطنبول
مدير مركز مدارك لدراسات العمران باسطنبول