انتشرت خلال الفترة الماضية عدة مقاطع فيديو للمقاول والممثل محمد علي، الذي اعترف أنه عمل مع القوات
المسلحة المصرية لخمسة عشر عاما، وشارك في اقتصاده واستفاد منه. وأظهر محمد علي الكثير الكثير من فساد القوات المسلحة وأذرعها الاقتصادية، وطرق التعامل مع المشروعات الكبرى التي تستنزف مليارات الجنيهات دون تخطيط، وما يصاحب ذلك من هدر كبير مغلف بالفساد المالي والإداري.
وكشف محمد علي عن تفاصيل تسقط هيبة الجيش التي ضيعتها أذرعته الاقتصادية، وهو ما أربأ بجيشنا السكوت عنه، حيث أسقط هذه الهالة التي حاول إعلام النظام تغليف قائد الانقلاب بها. وتعدى محمد علي مساحة النقد إلى إهانة ضباط كبار في القوات المسلحة على خلفية فسادهم.
ولم ينكر محمد علي أنه كان جزءا من المنظومة، لكنه برر خروجه عنها بأنه لم يعد يستطيع أن يرى بلاده تنهار بهذا المعدل الرهيب.
المنظومة الاقتصادية للجيش قدرت في بعض الإحصائيات بأربعين في المئة من الاقتصاد المصري، فبعد انقلاب 2013 وسع الجيش من نفوذه الاقتصادي. وبحسب دراسة لمركز كارنيجي، فقد استحوذ الجيش على قطاعات اقتصادية جديدة ومشروعات كبيرة. فمثلا قدم حازم الببلاوي، رئيس وزراء أول حكومة للانقلاب، مشروعات بــ770 مليون دولار أمريكي للجيش، وفُتحت أبواب أكثر بعد أن انخرط الجيش في المشروعات العملاقة، مثل تفريعة قناة السويس والعاصمة الإدارية وغيرهما، والتي تعد بوابات للجيش للفساد ونهب المليارات، سواء من خلال شركاته مباشرة، أو من خلال شركات مدنية يديرها لواءات أو مدنيون مواليون مقابل عمولات أو إتاوات تدفع للجنرالات.
استطاع الجيش السيطرة بقدر كبير على قطاعات مهمة، مثل الأغذية والدواء والزراعة، وكانت أزمة حليب الأطفال مؤشرا خطيرا ورسالة في نفس الوقت من الجيش للمجتمع، بدأت بالمنافذ القوات المسلحة الغذائية، لكن النشاط الاقتصادي الأكبر للجيش كان وما زال في البنية التحتية والإنشاءات، والتي يتجلى فيها الفساد متمثلا بانهيار الكباري والعمارات والمجمعات السكنية. ولم تأت هذه المشروعات إلا بمزيد من الأعباء على الاقتصاد وزيادة الدين الخارجي الذي تجاوز الـ110 مليارات دولار، وهو رقم ضخم بالنسبة لاقتصاد ضعيف كالاقتصاد المصري. فرغم وعود الحكومة المتواصلة بالحد من هذه النوعية من القروض، إلا أن وتيرة الاقتراض لا تزال متسارعة، ولا تزال مشروعات مثل العاصمة الإدارية الجديدة وتفريعة قناة السويس تفتك بالاقتصاد من خلال هذه القروض التي لم تتوقف.
وعلى كافة المستويات، فإن الشعب هو الذي يدفع الثمن من خلال سياسات فاشلة لا تخدم إلا طبقة معينة من الضباط العاملين في القطاع الاقتصادي في الجيش أو الضباط السابقين المرتبطين بهم، أو طبقة مدنية مستفيدة، كالفنان والمقاول محمد علي، صاحب الفيديوهات محور المقال.
وقد استطاع محمد علي أن يعري النظام ورأسه الذي طالما قال إن "مصر فقيرة أوي". ومع أن الاقتصادي المصري الكبير عبد الخالق فاروق كشف ذلك في كتابه الذي تمت مصادرته (هل مصر بلد فقير حقاً) والذي اعتقل بسببه، لكن تأثير فيديوهات محمد علي كان أكثر بكثير من تأثير الكتاب، ليثبت مقولة أن "الفيديو أصدق إنباء من الكتب"، فحقق ما لم يحققه عالم اقتصاد كبير، وما لم يحققه إعلام المقاومة السلمية المصرية، واستطاع أن يصل إلى عوام الشعب بسرعة الصاروخ.
العجيب أن بعضهم يظن أن محمد علي يمكن أن يصنع ثورة من خلال هذه الفيديوهات، وهو وهْم العاجز، فما لم تتحرك المقاومة السلمية وتضع خططها وتصل للناس لتصنع شريحة البدء، وتحطم الصنم وتعبر سور الخوف، فإن ثورة لن تلوح في الأفق، لا بفيديوهات محمد علي ولا حتى محمود ابن السيسي نفسه لو هداه الله يوما وقرر أن يفضح أباه. إن الشعب يغلي، لكن قبضة الأمن أقوى، فإن استطعنا أن نهزم الخوف سيهزم النظام.
محمد علي لن يصنع ثورة ولن يقودها، ذلك أن الرجل في كل فيديوهاته يتحدث عن نفسه، وعن ملايينه التي ضاعت من الملايين التي تسرق.. محمد علي يصنع طبقة جشعة تتمنى لنفسها ما يأخذه الجنرالات.
لو استطاع الثوار أن يجعلوا الشعب يعيش فضيلة التضحية، فإن الثورة ستنتصر. ولا أعني هنا أن يضحي الفرد بحياته، ولكن عليه بداية أن يضحي بوقته من أجل أسرته وعائلته ثم جيرانه وزملائه، ثم من أجل المقهورين من شعبه، ليصل رويدا رويدا إلى أن يضحي من أجل الوطن.
لقد زرع النظام رذائل الأخلاق ليستطيع أن يحيا، ومن أعظم تلك الرذائل الأنانية، ولن تخرج مصر من حكم الطغاة المرتزقة إلا بترتيب أولوياتنا وتقديم حرية مصر، وهو ما يعني التغيير من داخلنا.
يقول الإمام محمد الغزالي: "العمل الصعب هو تغيير الشعوب، أما تغيير الحكومات فإنه يقع تلقائياً عندما تريد الشعوب ذلك".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.