ما زلت أتذكر أول مباراة ديربي بين الأهلي والزمالك أشاهدها من مدرجات الأهلي. كانت هذه أيضاً أول مرة اصطحب فيها أخي الصغير إلى الملعب، أنا أيضاً كنت صغيراً حينذاك، لم أتعدَّ الخامسة عشرة وهو في عمر العاشرة. شعور بالرهبة يملؤنا لكنه لا يلبث حتى يتحول إلى شعور بالألفة وسط اللون الأحمر.
لكن ما لبث هذا الشعور أن انقطع عندما بدأت الجماهير الحمراء في إعلان غضبها ضد كلٍّ من جمال حمزة وشيكابالا، لاعبي نادي الزمالك، أثناء فترة الإحماء، سيل عارم من شتائم والسباب لا يتوقفان تجاه كل من يرتدي القميص الأبيض. كل أنواع الشتائم التي يمكن أن تتخيلها موجودة، ويتم تلحينها في الوقت واللحظة.
يسود الارتباك الموقف، فاللحن أصعب من أن يقاوم والشتائم أصعب من أن تنطق. أستشعر المسؤولية فأنظر إلى أخي الصغير وأتظاهر بالصمت والغضب. ثم أختلس لحظات غفلته لأردد معهم الهتاف الشهير "شي شي شيكابالا..". هذا كان جزءاً من ماضٍ خلى، إذ كانت تلك المباراة قبل مجزرة بورسعيد.
نقطة التحول بعد مجزرة بورسعيد، سرى إجماع داخل المجتمع الأهلاوي ينص على عدم التعرض لشيكابالا بأي شكل من الأشكال بعد موقفه الإنساني والأخلاقي تجاه المغدور بهم وأهاليهم عبر قناة النادي الأهلي. الرجل صار لا يمسّ ولو بلفظة عابرة من جماهير الأهلي سواء في المدرجات أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فلا أحد ينسى الموقف الشجاع الذي أخذه بعد المجزرة وما قاله، حتى أنه قطع مقاطعته للإعلام وظهر للمرة الأولى على قناة النادي الأهلي من أجل مواساة النادي وجماهيره وأهالي الشهداء. وسواء تبرع بأموال أم لم يتبرع فهذا لا ينقص من الحقيقة شيئاً، أن شيكابالا اتخذ موقفاً أخلاقياً محترماً بينما كان كثيرون يرقصون على الجثث.
أبطال على مين..
خلال اليومين الماضيين انتشر مقطع فيديو يظهر فيه شيكابالا وهو يغني مع جمهور الزمالك بعد الفوز ببطولة كأس مصر على حساب نادي بيراميدز بعد سحقه بثلاثية بيضاء. ما أثار عاصفة نقد وشتم لشيكابالا هي أن الأغنية التي كان يرددها تحتوي على سباب لجمهور النادي الأهلي بشكل مباشر، وشيكابالا يعلم ذلك تماماً.
هنا بدأت قطاعات كبيرة جمهور الأهلي الرد عبر السوشيال ميديا، أمواج من الشتائم لشيكابالا والـ "كوميكس" عنيفة المحتوى، مع بعض النكات العنصرية على أساس اللون. مع توعد برد قاسٍ في مباراة السوبر المصري في حالة حضور الجماهير. في المقابل، ترد جماهير الزمالك بأن أم شيكابالا ميتة ولا يجوز شتمها إضافة إلى تذكير الجمهور الأحمر بموقف شيكابالا من مذبحة بورسعيد.
هنا تبدأ المعضلة في التبلور، فالأخلاق المصرية تنبذ شتم الأم في حال كانت ميتة، بينما يركز قاموس الشتائم المصرية على الأم بالتحديد دون غيرها. وجمهور الأهلي يشعر بالإهانة ويريد الرد لكن أم شيكابالا ميتة وشتمه هو شخصياً لا يشفي الغليل بالدرجة الكافية. إذاً ما الحل؟
الحل الأول، هو أن يخرج شيكابالا كما فعل ليعلن رفضه للتعصب الكروي تماماً وينفي عن نفسه اقتراف الفعل المشين الذي رآه الشارع الرياضي المصري بأم عينه. ثم يضع الجملة السحرية (رحم الله الـ 74 والـ 20) في نهاية كلامه ليغلق كل أبواب النقاش بعد ذلك. الجملة التي أصبحت عبارة ابتزاز عاطفي للجماهير ومخرجاً لأي خطأ يقترفه لاعب أو مدرب أو إداري. صارت هذه الجملة هي السجادة التي نخفي تحتها مشاكل الرياضة المصرية، لكن رائحة العفن بدأت تفوح من تحت السجادة حتى أزكمت الأنوف. حتى بدأ مفعول السحر في الزوال.
الحل الثاني، وهو الحل الصعب وهو أن يتحلى شيكابالا ولاعبو كرة القدم بشكل عام بالمسؤولية الأخلاقية والأدبية. إذ إن النجومية المحصودة والأموال المدفوعة لللاعبين يجب أن يعي لاعبو كرة القدم أن لهما مقابلاً. والمقابل هو الالتزام الشديد والوعي بموقعهم الاجتماعي. ما يجب أن ينعكس في أفعالهم على أرضية الميدان وتصريحاتهم لوسائل الإعلام وعدم الانجرار خلف الجماهير المنقادة وراء عاطفتها. فما هو حلال للجماهير حرام على اللاعبين والمسؤولين.على كل يبدو شيكابالا لا يرغب في الخروج من عباءة الطفل المدلل الذي يفعل ما يحلو له من أخطاء، ثم يذهب إلى أبيه مطأطئ الرأس في براءة يطلب الغفران.
أما في ما يخص الجماهير، فيجب أن تعي الجماهير أنهم ليسوا من العشرة المبشرين بالجنة وأنهم ليسوا من أهل بدر ليفعلوا ما يحلو لهم. يجب أن يتحلوا بالمسؤولية أيضاً، ولا يجب تصوريهم على أنهم أطفال تحت الـ 18 من حقهم فعل أي شيء طالما هم في المدرج. هذا ببساطة لأنهم الوحيدون الذين يدفعون ثمن هذه الأجواء "المتكهربة". الأندية سيرزقها الله بعقود رعاية طويلة الأمد تدفع منها رواتب اللاعبين الذين تعرض مبارياتهم قنوات التلفاز التي ستجني أموال الإعلانات وهي تمدح اللاعبين وتنتقد الجماهير، ثم سيتدخل الأمن وقد يقتل 15 أو 150 آخرين حسب التساهيل، وسيحصل البعض على علاوات أو ترقيات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
تقدر شركة إنتغرال ميديا الاستشارية المحدودة خصوصيتك وتعلم جيدًا كم هي مهمة لك وأنك تهتم بكيفية استخدام
بياناتك الشخصية.
نحترم ونقدّر خصوصية جميع من يزورون موقع عربي بوست، ولا نجمع أو نستخدم بياناتك الشخصية إلا على النحو الموضح في
سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط، ولأغراض تحسين المحتوى المقدم وتخصيصه بما يناسب كل زائر؛ بما يضمن تجربة
إيجابية في كل مرة تتصفح موقعنا.
تعتبر موافقتك على سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط أمرًا واقعًا بمجرد استمرار استخدامك موقعنا. يمكنكم
الموافقة على جميع أغراض ملفات الارتباط بالأسفل، وكذلك يمكنكم تخصيص الأغراض والبيانات التي يتم جمعها. يرجى
العلم بأنه حال تعطيل كافة الأغراض، قد تصبح بعض مزايا أو خصائص الموقع غير متاحة أو لا تعمل بشكل صحيح.