حينما يكون في أفضل مستوياته فإنه بلا شك واحد من أفضل ثلاثة لاعبين في العالم حالياً. وعندما يكون في أسوأ حالة ممكنة فإنك لا تستطيع إخراجه من قائمة أفضل 10 لاعبين في العالم.
ما يقدمه محمد صلاح منذ انتقاله لفريق ليفربول هو أداء ومستوى لم يسبقه إليه أي لاعب مصري على مرّ التاريخ. ولا يضاهيه في التفرّد والغرابة سوى أداء محمد صلاح خارج الملعب.
الحدوتة أولاً
منذ قديم الأزل، يعشق البشر الحكاية، يحبون الخرافة والأسطورة، خاصة تلك التي تنتهي بانتصار البطل على الظروف والمنافسين والأعداء والأشرار. وفي كرة القدم الحديثة لا تكتفي وسائل الإعلام والشركات الراعية ووكلاء اللاعبين بما يقدمه اللاعب في الملعب ليصنف كنجم أو أسطورة. لكن لا بد من إسدال ملحمة شخصية أو بطولة أخلاقية أو سياسية على اللاعب ليتم الرفع من قيمته. يتوجب إذاً إيجاد قصة ملهمة أو موقف فاصل في حياته، ليتم تسليط الضوء عليه، وإظهار الجانب الملحمي فيه، ليخرج اللاعب الفذ من دائرة النجومية ليدور في فلك الأساطير.
على سبيل المثال، يتم تسويق كريستيانو رونالدو باعتباره بطلاً إنسانياً ومثلاً أعلى يجب أن يحتذي به الفقراء والمهمشون الذين يطمحون لصعود سلم النجومية وتطليق الفقر للأبد. وتملك حياة رونالدو كل المقومات لصنع الأسطورة بدءاً من الفقر شديد، وأب مهمل أدمن المخدرات، وملاك في هيئة أم تعمل بلا توقف من أجل أبنائها الصغار. ثم يستلم الطفل الراية من والدته ويصبح، عن طريق العمل الجاد، البطل الذي صنع المستحيل وشق طريقه وسط الصعاب حتى وصل إلى المجد. هذه هي الرواية التي يتبناها رونالدو ويسوق من خلالها نفسه عبر كل المنصات. فهو العصاميّ الذي شق طريقه من لشبونة مروراً بمانشستر والريال، وها هو مستقر في تورينو حالياً.
محمد صلاح أيضاً بدأت عملية تسويقه الاجتماعية باستخدام نفس الحبكة مع بعض الإضافات والبهارات التي تثير العاطفة وتزيد التعاطف. فهو الطفل الذي كان يغادر قريته من الفجرية، ثم يستقل عدة مواصلات شاقة ليصل إلى تمرينه في موعده ثم يعود في المساء إلى قريته في رحلة شاقة تتكرر بشكل يومي. ثم هو اللاعب الذي فشل في تجربته الأولى في إنجلترا رفقة تشيلسي، لكنه لم ييأس وعاد مرة أخرى ونجح وتألق في أرض الإنجليز. وهو بذلك يحطم التصور عن العرب غير القادرين على الاندماج والنجاح في المجتمعات الغربية.
لكن يبدو أن محمد صلاح لم تعجبه هذه الحدوتة التي تظهره بمظهر القروي المثابر، ذي الشعر المميز والابتسامة البريئة. والذي تقوم الجماهير بتدليله والتغني بسرعته وأهدافه.
ميلاد مو
"أنت ترى الأطفال يرتدون قميصك ويقولون إنهم يتمنون أن يصبحوا مثلك يوماً ما، يضعونك تحت ضغط قليلاً، ولكن في الوقت الحالي هذا شيء يجعلك فخوراً بما وصلت إليه حتى الآن".
قبل أكثر من عام قرر محمد صلاح أن يخلع ثوب القرويّ ويضع ثوب الشاب المستنير والقدوة للشباب الصغير في العالم العربي. فلم يعد صلاح مجرد فتى القرية الذي أبهر المدينة بسحره الكروي، وإنما القائد المجتمعي الذي يعرف مقدار القوة والنفوذ اللذين يتمتع بهما ويحاول استخدامهما من أجل دعم التغيير في الشرق الأوسط. فهو الآن لا يتحدث فقط عن ضرورة العمل الشاقّ لتحقيق الأحلام وإنما ينتقل لمساحة أكبر وأخطر. فيخاطب الجماهير عن ضرورة محاربة السلطة الأبوية في المجتمع ومنح المرأة حريتها. لتصبح قضية المرأة في الشرق الأوسط هي بوابته لعملية إعادة تسويقه كرمز وقدوة. يقول مو: "علينا أن نغير الطريقة التي نتعامل بها مع المرأة، في ثقافتنا، أنا أساند المرأة أكثر مما كنت أفعل سابقاً؛ لأنني أشعر أنها تستحق أكثر مما تحصل عليه حالياً، هذا يجب أن يحدث، إنه ليس اختياراً".
ويمكننا اعتبار هذه اللحظة في مسيرة صلاح بمثابة شهادة ميلاد لـ "مو سالاه". لكن المشكلة أن هذه الشهادة تم استخراجها قبل استخراج أخرى تعلن وفاة "محمد صلاح".
إذ ظهر تعارض صارخ بين الشخصيتين خلال أزمة عمرو وردة الأخيرة وتداعياتها، حيث بدا الارتباك واضحاً على تغريدات "مو صلاح"، فهو يسوق نفس المقدمات والحجج التي تطالب بتوقيع أقصى عقوبة على زميله المتحرش عمرو وردة لكنه يخلص إلى المطالبة بإعطائه فرصة جديدة. يقول صلاح إن لا تعني لا، وأنه يجب احترام قرار المرأة، لكنه يطالب بإعطاء فرصة أخرى لمتحرش متسلسل. هذا الاضطراب في الموقف هو نتيجة توتر واضح بين قيمة رجعية مترسخة ألا وهي الوقوف مع الصديق وقت الضيق حتى لو كان على خطأ، وبين ما تعلمه صلاح حديثاً عن ضرورة الوقوف ضد كافة أنواع العنف والتحرش ضد المرأة. لكن للأسف انتصرت القيمة الرجعية وقرر صلاح دعم وردة علناً واستطاع بمساعدة باقي اللاعبين إعادة وردة إلى معسكر منتخب مصر بعد أن تم استبعاده من قبل اتحاد الكرة. والحقيقة أن هذا الموقف لا يمكن تفسيره من منظور المصلحة. فالمنافع التي كان سيجنيها صلاح جراء الوقوف ضد تصرفات وردة وإدانتها علناً أكبر من أن تحصى.
على كل، غادر المنتخب المصري بطولة أمم إفريقيا بخفي حنين وعاد صلاح إلى إنجلترا ليجد مذيعة شبكة الـ CNN بيكي أندرسون، في انتظاره. وفي حواره معها قرر مو سالاه تغيير موقفه 180 درجة. بدءاً بالتنصل من المسؤولية تماماً فيما يخص دوره في أزمة عمرو وردة. مؤكداً أنه مجرد لاعب عادي مثله مثل باقي اللاعبين ولا يتمتع بأي قيمة أو ميزة إضافية تمكنه من إعادة لاعب إلى معسكر المنتخب. ونهاية بقوله إن وردة يحتاج إلى العلاج وإعادة التأهيل نفسياً.
المؤسف في الأمر، ليس فقط ازدواجية المعايير والدونية التي يعامل بها مو الجماهير المصرية منذ فترة ليست بالقصيرة. لكن أيضاً ضياع فرصة ذهبية لمحاربة التحرش في مصر. تغريدة واحدة من صلاح تدين عمرو وردة وتطالب بعدم التسامح مع أفعاله المقززة كانت ستؤدي إلى دفعة هائلة في عملية مكافحة التحرش ودعم المرأة في مصر وهي القضية التي يتبناها صلاح نفسه.
بهذه الوجوه المتغيرة، يطرح علينا صلاح، أو إن شئت قلت مو، سؤالاً صعباً للغاية: من نصدق محمد صلاح أم مو سالاه؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.