أن يبادر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى دعوة زعيم دولة أخرى، بنيامين نتنياهو، إلى منع دخول نائبتين في الكونغرس، رشيدة طليب وإلهان عمر، فتلك سابقة خطيرة في السياسة الأمريكية، غير أنه ليس مفاجئاً إذا تذكرنا أنّ الرئيس ترامب معروف بعدائه العصابي للفلسطينيين، ويعاني مما يمكن تسميته فلسطينوفوبيا (أو رهاب الفلسطينيين). ولعلّ هذا المصطلح يكاد يكون معدوماً في الخطاب السياسي، غير أنه -بوصفه ظاهرة عصابية جماعية- بات ملمحاً أساسياً في السياسة الأمريكية الراهنة.
تكررت أعراض هذه الفلسطينوفوبيا أخيراً في هجمات عنصرية شنّها دونالد ترامب على موقع على تويتر، واستهدفت النائبة عن ولاية ميشيغان، رشيدة طليب أول فلسطينية الأصل منتخبة في الكونغرس الأمريكي. كان جديد هذه الهجمات دعوة ترامب النائبة إلى "العودة إلى بلدها"، علماً أنّ طليب من مواليد مدينة ديترويت في ولاية ميشيغان. وفي تسويغه لتصريحاته العنصرية، اتهم ترامب طليب مراراً بكُره إسرائيل واللاسامية، وذلك في مناخ سياسي يشكل فيه الخلط بين مناهضة إسرائيل واللاسامية تكتيكاً شائعاً لشيطنة الفلسطينيين وداعميهم في الولايات المتحدة.
ولعل ترامب لا يحتاج إلى ذريعة لمعاداة طليب؛ يكفي أنها فلسطينية، فهو معروفٌ بعدائه العصابي لكلّ ما هو فلسطيني، واستهل ولايته بشنّ حرب سياسية شاملة ضد الفلسطينيين، وفرض عقوبات ذات طابع انتقامي ضدّ شعبٍ بأكمله، منها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وتجميد الدعم الأمريكي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، والمدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، وإغلاق المكتب التمثيلي الفلسطيني في واشنطن. ولم ينسَ ترامب فلسطين من تصريحاته العنصرية على تويتر، وهو ما تكرر بوضوح في تغريدات له اتهم فيها الفلسطينيين بأنهم شعب "ناكر للجميل". (لنا أن نتخيل لو أنّ مثل هذه التصريحات صدرت بحقّ اليهود أو أيّ مجموعة إثنية أخرى).
لم تتردد طليب في إبراز هويتها الفلسطينية، نكايةً في الرئيس الأمريكي وتحدياً للخطاب الفلسطينوفوبي السائد، فهي أدت القسم الدستوري على نسخة من القرآن الكريم، مرتديةً ثوباً تقليدياً فلسطينياً. كما تعارض الاحتلال وتدعم حركة مقاطعة إسرائيل من على منبر الكونغرس. وفي أول يوم لها في مجلس النواب، أمسكت خريطة رسمية في مكتبها في بناية الكونغرس وخطّت "فلسطين" مكان "إسرائيل".
ولا تقتصر الفلسطينوفوبيا على ترامب وعقليته الانتقامية، بل هي متجذّرة في السياسة المحلية الأمريكية والتشريعات القانونية على مستوى الولايات. ويكفي النظر إلى حالة الهستيريا تجاه حركة مقاطعة إسرائيل (بي دي إس)، إذ بادر سياسيون أمريكيون إلى شنّ حرب تشريعية على مجموعة سلمية محدودة النفوذ من داعمي حقوق الفلسطينيين في الولايات المتحدة. وحالياً هناك أكثر من 120 قانوناً مكارثياً يستهدف النشطاء الفلسطينيين في أكثر من 20 ولاية، وتدعو إلى تجريم مقاطعة إسرائيل قانونياً، وفرض عقوبات كافكاوية تتراوح بين السجن 20 عاماً وغرامة تصل إلى مليون دولار! تضاف إلى ذلك قوانين مماثلة في مجلسي الكونغرس، مثل قوانين مكافحة "بي دي إس"، علماً أنّ هذه القوانين تشكل انتهاكاً صارخاً لحق حرية التعبير والتظاهر المكفول بموجب الدستور الأمريكي.
ما يميز الفلسطينوفوبيا عن غيرها من الفوبيات أنها بلغت حداً من التطرّف بات فيه السياسيون الأمريكيون ينكرون تماماً وجود موضوع الفوبيا.
ويقول المرشح الجمهوري السابق للرئاسة، مايك هكابي: "لا يوجد هناك شيء اسمه الفلسطينيون". ويقول زعيم الأغلبية الجمهورية ورئيس مجلس النواب السابق، نيوت غينغريتش: "لم يكن هناك يوماً دولة فلسطينية؛ أعتقد أن الفلسطينيين شعب مخترع".
نحن إذاً أمام ظاهرة عصابية متطرفة، يعجز سيغموند فرويد عن تشخيص أعراضها. ونظراً لحالتها العصابية، استهدفت الفلسطينوفوبيا أكثر المجموعات الفلسطينية تهميشاً، أي اللاجئين. وبدأت السفيرة الأمريكية السابقة في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، مسيرتها الدبلوماسية بالمطالبة بإسقاط حق العودة. ودعا صهر الرئيس الأمريكي ومستشاره، جاريد كوشنر، علناً إلى القضاء على "أونروا". وليست الفلسطينوفوبيا حكراً على الجمهوريين، إذ يتسابق الديمقراطيون على التصويت على قوانين تجريم مقاطعة إسرائيل في الكونغرس، ناهيك عن تكرار اتهامات مفبركة ضدّ إلهان عمر ورشيدة طليب بمعاداة السامية.
إذاً، لا يخفي ترامب عداءه العصابي للفلسطينيين في وقتٍ باتت فيه الفلسطينوفوبيا ورقة سياسية رابحة في واشنطن، ويتسابق السياسيون الأمريكيون، من ديمقراطيين وجمهوريين، على إبداء ولائهم المطلق لإسرائيل إرضاءً للوبي الإسرائيلي، المتمثل خصوصاً بلجنة الشؤون العامة الأمريكية – الإسرائيلية (إيباك)، ومتبرّعين أثرياء داعمين لإسرائيل، مثل حاييم سابان، وشلدون أديلسون. وتمتد الفلسطينوفوبيا إلى الإعلام الأمريكي، حيث تسيطر الرواية الإسرائيلية، في حين لا تزال الأصوات الداعمة لفلسطين شبه مقموعة، وكأن الفلسطينيين، بعبارة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد: "لا يملكون حق الرواية"، فعبارات مثل "الاحتلال" و "الأبارتهايد" هي بمثابة تابوهات سياسية في الخطاب الإعلامي الأمريكي، ليس في شبكة فوكس نيوز اليمينية فحسب، بل حتى في منابر إعلامية متزنة، مثل شبكة سي إن إن وصحيفة نيويورك تايمز.
وتنتشر الفلسطينوفوبيا في الجامعات الأمريكية، فيتم تصنيف الأكاديميين الداعمين لحقوق الفلسطينيين على قوائم سوداء تابعة لجماعات إقصائية داعمة لإسرائيل، ومقرّبة من اللوبي الإسرائيلي (إيباك)، مثل كناري ميشن.
وعلى الرغم من تطورات إيجابية، كانتخاب نائبات في الكونغرس مثل طليب وعمر، إضافة إلى تصاعد الأصوات المناهضة للاحتلال الإسرائيلي، والداعمة لحقوق الفلسطينيين، في أوساط التقدميين من الأمريكيين الشباب، فإنّ الفلسطينوفوبيا لن تختفي في يوم وليلة، بل ستمتد على الأرجح إلى مرحلة ما بعد ترامب. إذ تميل الفوبيات الجماعية إلى البقاء والتكيف، وبخلاف الفوبيات الفردية، لا يمكن معالجتها من خلال جلسات سيكوتحليلية، بل تحتاج إلى سنوات، وربما أجيال، لاجتثاثها من جذورها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.