العنف ضد المرأة السودانية في السياق السياسي والإعلامي

عربي بوست
تم النشر: 2019/08/22 الساعة 17:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/08/22 الساعة 17:56 بتوقيت غرينتش

كشفت الثورة السودانية الحالية عن ملامح جوهرية في شخصية المرأة السودانية، لم تكن معروفة للعالم. حيث أظهرت المرأة السودانية وعيا حقوقيا وادراكا سياسيا وثباتا وبسالة وشجاعة. وأذهلت العالم بوقوفها على قدم واحد مع الرجل، وفي الصفوف الأمامية في كل  الحراك الثوري الذي شهدته البلاد أخيرا. وحتى بعد سقوط النظام، تواصل حضور المرأة في ميادين الفعل الثوري المنادي باستكمال أهداف الثورة، سيما في ساحة الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، وفي كل ما تلا فض الاعتصام من مواكب ووقفات احتجاجية ومشاركة في العصيان المدني والإضراب السياسي الشامل، وتعرّضت جرّاء ذلك للعنف الجسدي والتحرّش اللفظي والاعتقال والتعذيب والاغتصاب.

تناقش هذه المقالة أسباب وجذور العنف السياسي والإعلامي للمرأة السودانية، والنظرة الدونية لها، وتركز على تعريفه نوعا من العنف ضد المرأة خلال الحقبة الحالية لتاريخ السودان الحديث، والذي يشهد ثورة شعبية اندلعت منذ 13 ديسمبر/ كانون الأول 2018، وما زالت مطالب هذه الثورة مستمرة، وممثلة في الاحتجاجات الشعبية التي تنادي بمدنية الحكم، وضرورة التحول الديمقراطي الذي بنيت عليه شعارات الثورة السودانية من الحرية والسلام والعدالة.

المرأة في الإعلام الرسمي بين التهميش والتشويه

بات الإعلام في العصر الراهن من أكثر الوسائل المستعملة لصناعة الرأي العام، وتوجيهه وفق ما يخدم مصالح الأطراف والجهات المتحكمة فيه وأهدافها، فبالتالي أصبح الإعلام أداة لتضليل الرأي العام، وتغييب وعيه،  خصوصا في الأنظمة غير الديمقراطية، مثل السودان. ومؤكّد أن توجيه الإعلام وتحديد مساره وخطوطه الحمراء مهمةٌ  تقوم بها عدة أطراف، لهاتأثير بارز على الساحة الإعلامية. تلفزيون السودان القومي خير مثال على الإعلام الموجّه الذي يتم تحديد سياسته التحريرية وخطه الافتتاحي، وتحديد طبيعة الأخبار والمواضيع التي يتم تناولها وتغطيتها بالإضافة إلى تحديد شكل ونوع التغطية وكيفيتها. 

وهذا التوجيه يكون من أطراف عديدة، فقد يكون من السلطة أو الحزب الذي يمتلك الوسيلة، أو من المؤسسات المالكة أو المعلنة أو جماعات المصلحة. منذ قيام ثورة ديسمبر، بات جليا أن التلفزيون القومي لا يملك سياسة تحريرية مستقلة وواضحة، وقد اتسمت تغطيته الثورة منذ بداياتها، وحتى بعد إطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، بالتذبذب والارتباك وتشويه الحقائق وتزييف الواقائع، سعيا إلى تضليل الرأي العام. وقد كان هنالك تعتيم كبير، وتجاهل للحراك الشعبي طوال الخمسة أشهر الأولى من عمر الاحتجاجات الشعبية. وكان يتم الاكتفاء بتصريحات المسؤولين السياسيين الذين سعوا إلى التقليل من حجم الاحتجاجات الشعبية، بدعاوي أنها محدودة الأثر والنطاقين، الجغرافي والسكاني. بل وكان يتم توصيف المشاركين فيها بأنهم عملاء لجهات داخلية وخارجية متربّصة بأمن الوطن، أو بأنهم مجموعة من المخربين والمندّسين وذوو أجندة سياسية ضيقة، تسعى غلى تحقيق مطامح خاصة.

وفي الأيام التي تلت نجاح الثورة السودانية في إطاحة البشير ونظامه الحاكم، بدا التلفزيون القومي في حالة من الحيرة والارتباك، ولم يبث شيئا عن الثورة، أو الحراك الجماهيري الهائل الذي عم مدن السودان، واكتفى ببث البيان الرسمي للقوات المسلحة الذي يعلن فيه إزاحة البشير ونظامه. وفي وقت كان الشارع السوداني يمتلئ بأهازيج الثورة والمخاطبات السياسية الجماهيرية، ويحتفي بالتغيير في ساحة الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش السوداني في الخرطوم، وفي جميع المدن والولايات، كان التلفزيون القومي يعيش حالة من الإنكار وعدم الاعتراف بنتائج الثورة ومآلاتها، واكتفي ببث أغاني الكورال الوطنية، وبعض البرامج التاريخية الوثائقية. بعدها، وفي ظل انتقادات كثيرة طالته، حاول التلفزيون القومي أن يخرج من حالة العزلة الاجتماعية التي طوّق بها نفسه، وبدأ في الحديث عن الثورة وتسويقها، واستضافة المعارضين السياسيين، والتبشير بمدنية الحكم والانتقال الديمقراطي.

ولكن هذا الخط التحريري سرعان ما تبدّد مرة أخرى، بعد الخلافات الكبيرة بين المجلس العسكري الانتقالي الذي يتولى زمام الحكم حاليا وقوى الحرية والتغيير الممثل الرسمي للحراك الشعبي.  حيث عمل تلفزيون السودان على شيطنة الثوار بطرق ساذجة، باستخدام جانب درامي ومثير في تغطية الأحداث، كما أنه ربط بعض الأحداث بحياة الناس اليومية، مثل برنامجه "المتاريس وصناعة القتل"، وفبرك قصصا وهمية عن حالات وفيات مرضى ونساء نتيجة عدم تمكنهن من الوصول إلى المستشفيات نسبة للمتاريس التي أقامها الثوار. واستهدف الثوار جميعهم، وليس أفرادا منهم، في حلقات تلفزيونية بعنوان "خفافيش الظلام"، بغرض التشكيك في كل شخص ينتمي لهذه الفئة. ونالت المرأة الثائرة المشاركة في الاحتجاجات، وفي ساحة الاعتصام طبيبة وصانعة للطعام ومراقبة أمنية ومشاركة في المخاطبات الجماهيرية، نصيب الأسد من هذه الحملة التضليلية. حيث تمت فبركة الحقائق وتلفيق التهم وتقديم صورة سلبية وعدائية تجاه النساء الناشطات في العمل الثوري، باستخدام قوالب نمطية جاهزة، تقدح في حسن سلوكهن وأخلاقهن. وكانت هنالك مقاطع فيديو ملفقة، تم تصميمها لفتيات ونساء ثائرات، وهن يرتدين ملابس خليعة، ويجلسن مع الرجال بطريقةٍ غير لائقة، يتعاطين الخمور والمخدّرات في ما قيل إنه ساحة الاعتصام. وتمت هذه الحملة الإعلامية الممنهجة تجاه النساء بغرض تشويه صورة المرأة الثائرة، لتكوين رأي عام ضد المشاركة السياسية للمرأة، وبالتالي تحجيم دورها المتعاظم في صناعة التغيير السياسي في البلاد.

وقد يكون هذا التوجيه بأمر مباشر وتعليمات من المجلس العسكري، بصفته السلطة الحاكمة

حاليا في السودان، أو من القائمين على إدارة الإعلام في البلاد. أو قد يكون بإيعاز وتلميحات غير مباشرة من المؤسسات المعلنة أو الجماعات الضاغطة من الحرس القديم لحزب المؤتمر الوطني (الحاكم سابقا)، والذين ما زالوا يملكون النفوذ والهيمنة الاقتصادية على أغلبية المؤسسات الإعلامية. كما أنه أحيانا يتم بتلقائية، حيث يقوم بعض منتسبي الأجهزة الإعلامية  (التلفزيون القومي في هذه الحالة)، وحسب انتماءاتهم  السياسية وميولهم الإيدولوجية، بتأييد وجهة نظر السلطات، أو تشويه صورة المعارضين لها بتزييف الحقائق، والتشكيك في وطنيتهم ومصداقيتهم. لذلك، لا يُقصد بالحديث عن توجيه الإعلام فقط المضامين، ولكن أيضا تعيين القيادات التي تضمن تنفيذ وتصميم السياسة التحريرية المراد التأثير بها على الجمهور. 

ويتضمن التوجيه كذلك ترتيب الأخبار والمواضيع التي يتم تجاهلها، أو التركيز عليها، والضيوف والشخصيات المستضافة. وفي هذا الخصوص، وعلى الرغم من وجود نساء سودانيات كثيرات يملكن قدرا كبيرا من الوعي السياسي، وعلى الرغم من المشاركة المتساوية للمرأة مع الرجل في صنع التغيير الحالي، إلا ان فرص ظهورهن على كل وسائل الإعلام السودانية كان محدودا للغاية، بينما تسيد الرجال من كل الأطياف السياسية المشهد الإعلامي. ولم تنج قوى الثورة الممثلة في "إعلان الحرية والتغيير" من هذا التعامل غير المنصف مع النساء، وقد اتضح هذا جليا في التهميش المتعمد للمرأة السودانية، والتمثيل المحدود لها، ولصوتها على المنابر الإعلامية والجماهيرية لهذه القوى، فقد تم تغييبهن تماما من المشاركة في الخطاب الرسمي لهذه القوى. وتبدّى هذا جليا في عدم مشاركة المرأة، إلا في حالات نادرة، متحدثة في المخاطبات الجماهيرية الميدانية، وفي المؤتمرات الصحفية، أو ناطقة رسمية لوسائل الإعلام المحلية والإقليمية والدولية.

وخطورة هذا التضليل الإعلامي في أنه قد يكون مؤثرا في بلد مثل السودان، نتيجة قلة الوعي السياسي والثقافي لدى قطاعاتٍ واسعةٍ من المجتمع، خصوصا وأن ناسا كثيرين، عاديين أو بسطاء، لا يمتلكون القدرة على التمييز بين الأخبار الكاذبة والمضللة والوقائع الحقيقية. كما أن قليلين يمتلكون القدرة على التحليل النقدي للأخبار والمضامين، أو يسعون إلى الحصول على معلوماتٍ من مصادر أخرى بديلة للمقارنة، نتيجة عدم توفر هذه البدائل، أو لصعوبات الحياة اليومية والضغوط الاقتصادية والاجتماعية، لا توفر الوقت ولا الرغبة للبحث والتنقيب عن المعلومات والحقائق، وهو ما يجعلهم عرضةً لتصديق ما يأتيهم من القائمين على هذه الوسائل الإعلامية المضللة.

وكما أن وضع المرأة في الإعلام لا ينفصل عن الظرف الذي تعيشه في الحياة الثقافية، فإن وضعيتها في الإعلام مترافقة، إلى حد بعيد، مع السياسات العامة للدولة. ومن هذا المنطلق، لا بد من الحديث عن كيفية تأثير السياسات الحكومية على الطرح الإعلامي لقضايا المرأة. والواقع يقول إنه عندما تكون الأجهزة الإعلامية مملوكة للدولة، أو حتى للقطاع الخاص في الأنظمة غير الديمقراطية، كما هو الحال في السودان، فهي في الحالتين تعمل وفق الضوابط الحكومية. ولذلك هي تخضع للسلطة السياسية، حيث يكون الهاجس هو خدمة النظام السياسي القائم وترويج أهدافه والأيدولوجيا التي يحكم بها. وفي هذه الحالة، يظهر تأثير السياسات العامة على المضمون الإعلامي لقضايا المرأة بشكل واضح، وذلك للعلاقة اللصيقة بين وضع المرأة والوضع العام للحريات وحقوق الإنسان. وطبقا لمستوى تمتع المواطنين بممارسة مبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ولهذا، لا يمكن إلقاء اللوم فقط على وسائل الإعلام، لأن الحكومات هي الجهات الفاعلة الرئيسية في توجيه التغيرات الثقافية والاجتماعية داخل بلدانها، فبالتالي يصبح الخطاب الإعلامي، في مجمله، نتاجا لتوجهات الدولة.

 وهذا يقودنا إلى التسليم بأن المطابقة بين الخطابين، السياسي والديني، بشأن المرأة، يؤدي بالضرورة إلى تماثل في الخطاب الإعلامي الموجّه لها. لذلك، كما تتجنب وسائل الإعلام السودانية، في أحيان كثيرة، التعرّض لقضايا المواطنة والانتهاكات والفساد وغياب سيادة القانون، فهي تتجنب أيضا تناول قضايا جدلية بشأن حقوق المرأة والمساواة وضرورة تعديل الدستور والتشريعات الخاصة بالنساء، وغيرها من قضايا قد تزعج السلطة الحاكمة.

وفيما يختص بكيفية معالجة هذا الخلل الهيكلي في الآلية التي يعمل بها التلفزيون القومي قد

يكمن الحل في إعادة هيكلة و بناء النظام الإعلامي القومي أو الحكومي على أساس تحويله من نظام الإعلام الموجه التابع تبعية مطلقة للدولة إلى نظام إعلام الخدمة العامة.  وهو النظام المطبق في العديد من الدول الأوروبية الديمقراطية وهو نظام إعلامي محصن من التدخل السياسي الحكومي في سياساته التحريرية والبرامجية، أيا كان نوع الحزب الحاكم أو الحكومة القائمة، ومحصّن كذلك من الخضوع للاعتبارات التجارية والإعلانات وضغوط جماعات المصالح، وذلك يمكن أن يحدث بتأمين مصادره المالية، من خلال الاشتراكات التي يدفعها المواطنون، والتي تؤمنها الدولة لجهاز بث الخدمة العامة.

وبما أن الإعلام يلعب دورا جوهريا وأساسيا في عملية التغيير والحفاظ على روح الوهج الثوري، فبالضرورة أنه تقع عليه مسؤوليات حماية مكاسب الثورة، وكشف المعوقات والصعوبات التي تحول دون نجاحها، للمضي في طريق التحول الديمقراطي. وذلك يقتضي إيجاد بيئة سياسية وقانونية تمكّن الإعلام من مزاولته وظائفه الحقيقية، لتأسيس الأرضية الملائمة لتعبئة الجماهير، لإحداث التحول الديمقراطي والتنمية المنشودة. وكذلك يستلزم  بناء الرسالة الإعلامية المرافقة لعملية الانتقال الديمقراطي، والتي تلتزم بمعايير الجودة والمضمون المتعلقة بالمنتج الإعلامي، لأن العمل الإعلامي يحتاج إلى تخطيط واستراتيجيات وسياسة تحريرية مستقلة، لا تتغير مع تغير القيادات الإعلامية.

المرأة في الإعلام البديل بين التحقير والنظرة الدونية

بينما كانت وسائل التواصل الاجتماعي تعج بصور وفيديوهات وكتابات لناشطين وناشطات تمجد المرأة السودانية، وتنصفها بتثمين دورها في الحراك الثوري، إلا أنها كانت، في الوقت نفسه، تنشر وترسخ صورة سلبية تضع المرأة في قوالب نمطية جاهزة. ولعل أكثرها سوءا تشبيه شخصيات رجالية مغضوب عليها من سياسيين وإعلاميين وقفوا ضد الثورة وإرادة الشعب  بالمرأة، وذلك من خلال كتابات ورسومات، أو تعديل بالفوتوشوب يصوّر الرجل على هيئة إمرأة، وذلك بغرض واحد، الانتقاص من قدر الرجل وإنزاله إلى مرتبة دنيا. والملاحظ أنهم يفعلون ذلك عن وعي وقصد، وأحيانا بلا وعي وبدون قصد، ناتجا من إرث ثقافي متجذّر في ثقافتنا المجتمعية، بأن المرأة مخلوق أقلّ درجة في الإنسانية والأهلية العقلية من الرجل، وأنها غير مؤثرة وغير قادرة على الفعل والتغيير. وربما تتبدّى حالة اللاوعي أكثر وضوحا، عندما نرى فتيات ونساء كثيرات محتفيات بهذه اللغة وهذا السلوك، مشاركة وتعليقا وتندّرا، لأن العقلية الذكورية لا تتعلق فقط بالرجال، وإنما بالنساء أيضا.

للتشبيه الضمني معانٍ خفية، كل إنسان يفهمها على مزاجه وطراز تفكيره، ولكنها كلها تتساوى في أن توصيف الرجل بالمرأة يأتي بغرض الذم والشتم والتحقير والتقليل من الشأن. والغريب أن هذا الأمر لا يرتبط فقط بالصفات الفسيولوجية أو البيولوجية التي تفرّق بين جنسي الرجال والنساء، وما ينتج عنها من صفات مظهرية، مثل  تركيبة الجسم، أو نعومة الصوت أو غيره، كما هو متعارف عليه عادة. وإنما إمتد الأمر إلى توصيف الرجل بالمرأة دلالة على افتقاره الشجاعة والمواقف الثابتة والمبادئ والأخلاق والضمير الحي. 

وكأن الحس الوطني السليم ومكارم الأخلاق والروح الثائرة الأبية صفاتٌ رجوليةٌ ليس للنساء منها نصيب. وعبارات مثل "نلبس طرح" و"نحلق دقنا" و"نقعد زي النسوان في البيت" و"لا تبكوا كالنساء على وطن لم تحافظوا عليه كرجال"، أمثلة قليلة على ما إمتلأت به صفحات "فيسبوك" و"تويتر". وفي هذا ظلم وإجحاف للمرأة السودانية التي ناضلت وتحملت كثيرا من العسف والتعنيف والإذلال منذ قدوم هذا النظام الحاكم إلى السلطة، وفيه أيضا ظلم كبير لما قامت به المرأة السودانية حاليا في هذه الثورة ثائرة وشجاعة وحرّة وأبية، متحملة، بجلد مهيب، مخاطر الضرب والسجن والاعتقال والتحرّش اللفظي والجنسي.

"ود المرا أرجع ورا ثورتنا دي ما بتحملا" أهزوجة جميلة تغنّى بها شباب الثورة في حماس

عجيب، ولكن أفسدتها "ود المرا" التي استخدمت نوعا من المعايرة والتقليل من الشأن. وهذا مفهوم غريب، يدعو إلى الوقوف وإطلاق صفارة إنذار داخل رؤوسنا، يحاول أن ينتقص من شأن الرجل، لأنه "ود مرا"! أليس كل رجل في هذا العالم "ود مرا"؟ فالمرأة هي من تحمّلت حمله، وهنا على وهن، في أحشائها تسعة أشهر، وتحملت آلام المخاض ووجعه. أليست هي من أرضعته ورعته وسهرت معه الليالي، وربّته حتى صار رجلا قويا؟ ليأتي في نهاية الأمر من ينتقص من شأنها، ويعايرها بأنها إمراة ناقصة عقل ودين، ويعاير إبنها بها بأنه "ود مرا"!

هذه الصورة النمطية للمرأة وحدها كفيلة بهزيمة الثورة، فالثورة السودانية لن تنجح، ولن يجني السودانيون ثمرة حصادها، ما داموا، وهم في عز الوهج الثوري، يعملون على إنتاج وإعادة إنتاج مفاهيم بالية وعقيمة، تنتقص من شأن النساء، وتشكك في التزامهن الأخلاقي، وفي حسّهن الوطني السليم. ليست هذه الثورة فعلا واعيا للتخلص من أزمات السودانيين السياسية والاقتصادية فقط، ولكن أيضا هي ثورة للتخلص من أزماتهم الاجتماعية والثقافية المتراكمة التي تُقصي نصف المجتمع، وتتسبب في تقليل ثقته بنفسه وتعطيله عن الفعل والريادة والمساهمة في التنمية الوطنية.

ولعل هذا يقود بالضرورة للحديث عن الإعلام الجديد، ومساحات الحرية التي أتاحها للمدافعين عن حقوق الإنسان بصفة عامة، والمرأة خصوصا، فقد أدّى هذا الإعلام إلى مناقشة كثير من المسكوت عنه، ما يبرهن أن هناك خطابا موازيا في أهميته للخطاب الرسمي وإن هنالك حوارا بشأن القضايا النسوية ذا طابع حقوقي وفي منتهي الجرأة وعدم التقليدية. مثلا، هنالك مجموعات نسائية في السودان محظورة من الظهور في الإعلام الرسمي، ولكنها لجأت إلى استخدام وسائل التواصل الإجتماعي منصات لها مثل مبادرة "لا لقهر النساء" التي تهدف إلى محاربة العنف ضد المرأة، والمناصرة الفعلية للنساء اللائي يتم محاكمتهن بناءً على قانون النظام العام المختص بمعاقبة النساء، بناءً على لبسهن، أو عملهن في بعض مهن القطاع غير الرسمي. وهنالك مجموعة "المرأة والتغيير" التي تنادي بضرورة إجراء تغييرات جذرية في قوانين الأحوال الشخصية المجحفة في حق النساء. لذلك الدعوة هنا إلى استغلال هذه المساحة المتاحة لتحدي التنميط المجتمعي حول المرأة، والعمل على إطلاق طاقاتها الإيجابية المؤثرة. 

التهميش السياسي للمرأة

شاركت النساء السودانيات بقوة في الحراك الثوري، ونزلن جميعا إلى الشارع، للمطالبة برحيل الرئيس السابق عمر البشير ورموز نظامه، وطالبن بالحرية والسلام والكرامة والعدالة. خلال الاحتجاجات تعرّضت نساء إلى العنف والاعتقال والتعذيب، بالإضافة إلى الاغتصاب ليلة فض الاعتصام في الثالث من يونيو/ حزيران الماضي أمام القيادة العامة للجيش. ولكن مشاركة المرأة لم تنحصر في المواكب والمسيرات الشعبية وساحات الاعتصام، بل احتشدت كذلك كل المدونات على الإنترنت والصحافيات والناشطات لدعم الحراك الشعبي والتبشير بالثورة والتغيير القادم. 

تمتلك المراة السودانية عموما رصيدا سياسيا ونضاليا ثرا. ولكن إلى جانب هذا أدت الثورة

السودانية إلى رفع الوعي لدى المرأة السودانية بحقوقها السياسية، سواء على المستوي الفردي، أو علي مستوى المنظمات المهتمة بالحقوق السياسية للمرأة، وظهر ذلك في كتابات ومطالبات عديدة، نادت بمنع التمييز بين المرأة والرجل في كل الحقوق التي وفرها الدستور السوداني. وكذلك ظهرت احتجاجات ومظاهرات نسائية تطالب "قوى الحرية والتغيير"، وهي الممثل الشرعي للثورة الشعبية في السودان، بتحسين سلوكها السياسي وتعاطيها الإعلامي مع النساء.

 وذلك نتيجة التهميش الكبير للمرأة لدى هذه القوى، خصوصا فيما يتعلق بالتمثيل المحدود لإمرأة واحدة فقط، في كل الوفود التفاوضية التي عقدتها قوى الحرية والتغيير مع المجلس العسكري، فالنموذج الحالي لقوى "إعلان الحرية والتغيير" يثبت أن حسن النيات أو الإطار النظري ليس شرطا كافيا لتحقيق المساواة والمشاركة السياسية للمرأة، سواءً في مراحل الانتقال الديمقراطي الحالي أو مستقبلا. لأن هذه القوى ما فتئت تكرّر على الأسماع إيمانها المطلق بالمرأة السودانية ودورها الرئيسي في الثورة وصناعة التغيير، وعزمها على تمكين المرأة في صناعة القرار، وزيادة فعالية دورها السياسي، والدور الذي  تؤديه في المجتمع بشكل عام. ولكنها لا تطبق ذلك على أرض الواقع، مع أن الوقت مبكّر للحكم على هذه التجربة، باعتبار أن مؤسسات الحكم الانتقالي لم يتم تشكيلها بعد، إلا أن السلوك الذي تتعامل به هذه القوى مع المرأة حاليا يمكن أن يعطى مؤشراتٍ لسلوكها المستقبلي، فيما يخص المشاركة السياسية للمرأة في مرحلة الحكم الانتقالي. وعلى الرغم من إعلان "قوى الحرية والتغيير" نيتها تخصيص نسبة 40% للنساء في برلمان المرحلة الانتقالية (المجلس التشريعي)، إلا أن هذه الخطوة لا يجب النظر إليها منحة أو ميزة يحق لأي جهة أن تعطيها أو تمنعها، ولكنها استحقاق نالته المرأة السودانية بجدارة مشاركتها غير المسبوقة في الثورة السودانية. ويمكن اعتبار هذه النسبة انتقاصا للدور الذي قامت به المرأة السودانية في هذه الثورة منذ اندلاعها، فالتساوي في قيادة الحراك يجب أن يتبعه تناصف في المشاركة السياسية، ليس فقط في تخصيص مقاعد برلمانية للنساء، وإنما أيضا تحدّد مشاركة منصفة للمرأة في بقية مؤسسات الحكم الانتقالي، ممثلة في الجهاز التنفيذي (مجلس الوزراء) والمجلس السيادي، فقد تجاهلت قوى الحرية والتغيير النساء عن عمد في التمثيل السياسي والتفاوضي طوال أيام الثورة، كما تم تجاهل قضية الاغتصاب التي حدثت في أثناء فض اعتصام القيادة العامة، وحتى عندما يتم الإشارة إليها تذكر بشكل عابر لا يرقى إلى مستوى جريمة الاغتصاب، والذي لا يعتبر قضية نسوية فقط، ولكنه قضية تحمل أبعادا إنسانية وسياسية وحقوقية، خصوصا عند استخدامه أداة للحرب، أو لإذلال الناشطات السياسيات وتركيعهن. وكما حرصت قوى الحرية والتغيير على عزمها على محاسبة كل من شارك في قتل المتظاهرين والمعتصمين السلميين، وعملت على التعبئة العامة لتسيير المواكب المليونية تحت شعار "العدالة أولا" الذي يدعو إلى القصاص، وإعلاء قيم المحاسبة والعدالة ودولة القانون، كان من واجبها الوطني والإخلاقي أن تسلط الضوء على محنة المغتصبات، وضرورة القصاص لهن.

لذلك كل هذه الممارسات من قوى الحرية والتغيير لا تحمل بشرى كثيرة لنساء السودان بالحصول على المشاركة السياسية المتساوية والعدالة الاجتماعية. بل هي تبعث بمؤشرات غاية في السلبية، باستمرار الهيمنة الذكورية على كل مقاليد الحكم والسياسة في السودان، رامية بذلك عرض الحائط بكل تضحيات المرأة السودانية في الثورة المجيدة. ولذلك يجب اعتبار قضية وجود النساء في المجال السياسي العام قضية هيكلية، تمس جموع الجهات الفاعلة في الدولة، ابتداءً من منظمات المجتمع المدني، وكيفية تناولها قضايا مشاركة المرأة السياسية، مرورا بدور الأحزاب في دعم ومساندة الكوادر النسائية في داخلها، والدفع بهن إلى مواقع القيادة وصنع القرار، وانتهاء بدور المؤسسات العامة للدولة، لضمان تمثيل كمّي ونوعي للنساء. وأكثر من ذلك، يجب التأكيد على ضرورة تنوع أشكال المشاركة السياسية للنساء، وأن لا يتم اختزالها في المقاعد والمناصب، وإنما يجب أن تتسع، لتشمل أيضا قدرتهن على تشكيل خطابٍ يتناول قضاياهن، ويكون مؤثّرا وفعالا في الفضاء العام، بحيث يصبح وجودهن أساسيا في حد ذاته.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ندى أمين
كاتبة سودانية
كاتبة سودانية