مضت ست سنوات على مجزرة رابعة وأخواتها، ولم يتحقق النصر الذي يهون علينا كل هذه التضحيات التي دفعها شهداؤنا ومصابونا وأسرانا في سجون الاستبداد.
ست سنوات وما زال البعض لا يرغب في التزحزح عن موقعه شبرا، وما زال من يملكون زمام الأمر في المعارضة (بشتى تياراتها) يتصرفون في الشأن العام بأريحية لا يسمح بها عظم المصاب، ولا فداحة الكارثة.
ست سنوات مضت، وما زال نهر التضحيات متدفقا، وما زال الشهداء يتساقطون، والمعتقلون بيد الظلم يُعذبون، والمنفيون يعانون، وما زال الشعب المصري ينتظر من أهل الثورة إنقاذا، أملا، خلاصا.. ولكن لا حياة لمن تنادي !
لا بد من مراجعة أساسيات التجربة، ومنطلقات الخلاص، لنعرف أين نحن الآن؟ وإلى أي اتجاه ينبغي أن نسير؟ وما الممكن دون إفراط أو تفريط؟
لقد انطلقت الثورة المصرية، وجرت في النهر مياه كثيرة، وأصبح الثوار اليوم بين شهيد وجريح وسجين ومطارد ومنفي، ومع مرور الوقت نسينا الموقع الذي كنا فيه، واستهلكنا أنفسنا في الموقع الحالي – هو موقع مؤقت وإن طال – وقادنا مجموعة ممن لا يحسنون القيادة، وأسوأ ما فيهم أنهم يتمسكون بمواقعهم رغم الفشل، ويرفضون التغيير رغم آلاف الأسباب التي تدعوهم إلى التنحي.
لا بد من مراجعة أساسيات التجربة، ومنطلقات الخلاص، لنعرف أين نحن الآن؟ وإلى أي اتجاه ينبغي أن نسير؟ وما الممكن دون إفراط أو تفريط؟
******
إن الموقع الذي تقف فيه القضية المصرية اليوم هو موقع النزاع بين الشركاء المتشاكسين، والصراع بين نخب قديمة تجاوزها الزمان، ولكنها ما زالت مصرة على القيادة وهي غير مؤهلة لذلك !
يتنازع القضية المصرية – بعد معارك النخب – تياران كلاهما أسوأ من أخيه… التيار الأول : تيار العنف، والتيار الثاني : تيار العدمية واليأس.
أما تيار العنف.. فهو رد فعل على عنف النظام، وكانت الثورة المصرية في 2011 قد تمكنت من خلال الإطاحة السلمية بمبارك من إثبات جدوى التغيير السلمي، وكذلك تمكنت من إثبات عبثية اللجوء إلى العنف، فعشرات تجارب العنف لم تزد الأنظمة المستبدة إلا قوة فوق قوتها، وتيار العنف يطرح حلولا مستحيلة لحل القضية المصرية، حلولا قائمة على هدم كل شيء، والبناء من جديد، ولا يكلف نفسه عناء توضيح كيف يمكن أن يحدث ذلك.
إنه تيار يطمح في هدم الجيش والشرطة والقضاء والإعلام، بل يطمح إلى هدم جميع المؤسسات التي لا علاقة لها بدوائر القوة في الدولة، وإذا سألت أحدهم كيف يتحقق ذلك؟ وكيف سيتم بناء البديل؟ تجد الإجابة مزيجا من الصمت أو التصورات البدائية النظرية غير المقنعة.
إنه تيار أقلية.. فالداعون للعنف اليوم برغم زيادة حجمهم إلا أنهم ما زالوا أقلية ضمن جيل يناير الضخم.
الحقيقة أن جميع الثورات في التاريخ مرت بفصول تراجع، حتى ظن الثوار أنهم قد هزموا هزيمة نهائية تامة، ولكن تتغير الأحوال، وتتبدل المصائر، فترى مهزوم الأمس منتصر الغد، وترى سجين اليوم حاكم الغد
وهم لا يقدمون أساسا فكريا متماسكا لما يطرحون، بل مجرد رد فعل على عنف النظام ووحشيته كما ذكرنا، ولا يشغلون أنفسهم بما هو كائن، وبما ينبغي أن يكون، ولا يفكرون بعمق في مآلات الأمور، خلاصة الأمر أنهم يحملون حافزا انتقاميا كبيرا، ولا يملكون القدرة على تصور معنى مسار العنف من الأساس !
ومن أهم صفات هذا التيار أنه يحمل موقفا ملتبسا من فكرة الديمقراطية وحكم الشعب كفكرة تأسيسية مرجعية كانت سببا في انطلاق الثورة المصرية أصلا.
ذلك أن من يتمكن من التغيير بالسلاح لا شك أنه لن يحتكم بعد ذلك إلى الديمقراطية، بل سيفرض رؤيته بالسلاح أيضا، وبالتالي ستسير الأمة من استبداد إلى استبداد (كل ذلك على افتراض أن هذا المسار نجح أصلا، وهو أمر أقرب إلى المستحيل).
لن أتحدث عن تصوراتهم الأخلاقية لمنهج العنف، لأن هذا التيار – للأسف الشديد – يملك من المسوغات الدينية والأخلاقية ما يبرر به رؤيته تلك، وكثير من أتباعه ينساقون خلف ذلك بدافع الرغبة في الانتقام لا أكثر !
***
التيار الثاني.. تيار العدمية واليأس.. يشترك مع التيار الأول في أنه رد فعل لعنف النظام ووحشيته، ولكنه تيار يعتبر أن الهزيمة قد تحققت، وأن الحلم قد انتهى كابوسا، وأنه لا فائدة من أي مقاومة، وأنه لا طريق أمام الجميع إلا الخلاص الفردي، أو الاستسلام التام !
اليأس أكبر هدية نقدمها لأعدائنا، وأعداؤنا يفهمون ذلك، ويحاولون بكل الطرق لكي يصبح اليأس عنوان المرحلة، وشعار الجيل، ومنهج التفكير
والحقيقة أن جميع الثورات في التاريخ مرت بفصول تراجع، حتى ظن الثوار أنهم قد هزموا هزيمة نهائية تامة، ولكن تتغير الأحوال، وتتبدل المصائر، فترى مهزوم الأمس منتصر الغد، وترى سجين اليوم حاكم الغد!
أسوأ ما في بعض أتباع هذا التيار أنهم لا يكتفون باليأس الفردي، بل يتجاوزون ذلك إلى مرحلة (اليأس الجماعي)، بل إن بعضهم يعتبر تيئيس الناس رسالة سامية يقوم بها آناء الليل وأطراف النهار، فتراه يبذل جهدا جهيدا في تسفيه أي عمل، وفي تعويق أي محاولة، ويعمل من أجل قتل الأمل في النفوس ما لو عمله من أجل مقاومة الاستبداد لربما غير الدنيا.
هذا التيار العدمي اليائس أكبر في حجمه من تيار العنف، وهو في الحقيقة (أشد خطرا) منه، ذلك أن اليأس هو عدو التغيير الأول، فاليأس فكرة لو تمكنت من جيل يناير فسوف يتحقق انتصار النظام دون أن يطلق طلقة واحدة، ودون أن يبذل جهدا يستحق به الانتصار.
اليأس أكبر هدية نقدمها لأعدائنا، وأعداؤنا يفهمون ذلك، ويحاولون بكل الطرق لكي يصبح اليأس عنوان المرحلة، وشعار الجيل، ومنهج التفكير.. وللأسف يقع الكثير منا في هذا الفخ، ويقدم للثورة المضادة هذه الخدمة مجانا، وهو يحسب أنه يحسن صنعا !
***
هذه وقفة سريعة واجبة… لكي لا تتوه منا البوصلة، ولكي لا نستسلم لبائعي الأوهام، أو راغبي الانتقام، أو لأصحاب المشاريع الشخصية التي لا تنفع الوطن.
ولكي نضع النقاط على الحروف نقول… إن أساس الرؤية الفكرية للتغيير في مصر تقوم على أنه تغيير سياسي سلمي، يعتمد على جموع الشعب المصري، وخاصة الشباب، ويقدم نخبة جديدة (غالبيتها من الشباب) تقود الأمة، بتقديم بديل سياسي عن نظم الاستبداد، بديل يحشد الداخل، ويستمد شرعيته من شعبنا العظيم، وبهذه الشرعية يتمكن من تمثيل الشعب أمام القوى الدولية، وبتجاربه الممتدة خلال سنوات الثورة يتمكن من التغلب على المؤامرات الإقليمية، والاعتراضات العالمية، دون الدخول في معارك صفرية لا يمكن أن تنتهي إلا بالهزيمة، كل ذلك دون إقحام المعارك الأيديولوجية المزيفة التي تقسم الناس، وتقلل الكثير، وتفرق المُجمع.
هذا البديل موجود، ولكنه يحتاج إلى القيادة (الجماعية)، وهذه القيادة تحتاج بعض الموارد، لكي تتمكن من جمع شتات طاقات آلاف الشباب في الداخل والخارج.
هذا البديل موجود، ولكنه مطحون في المعارك بين القيادات المتنازعة على اللاشيء، والمتصارعة على الفراغ، وهو مشغول قبل كل شيء في تحصيل معاشه اليومي، ومشاكله الشخصية الناتجة عن سنوات النضال الماضية.
إن فريضة الوقت هي تجميع هذه الطاقات في مسار موحد، يخلق بديلا له وزن معتبر، ويتجاوز مهاترات الوضع الحالي المغرقة في سفاسف الأمور.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.