لماذا نبذل كل هذا الجهد في البحث عن سر السعادة، ونتوهم أنها شيء بعيد المنال، صعب الوصول، لا يفوز به إلا القليل، في حين أنها قريبة منا قرب أنفاسنا، تلوح أمامنا مـدّ أبصارنا، إننا نقابل السعادة يومياً في طريقنا، ولكن لا نلتفت إليها، بل شعرنا كثيراً بها، ولكن لم نتعرف عليها.
صورت لنا الدراما صورة كاذبة للسعادة، حيث أظهرتها في امتلاك الأموال الطائلة، والمنازل الفارهة، والراحة الدائمة، وإرضاء الشهوات دون قيود، صورتها بأنها الاستمتاع بكل ملذات الدنيا، ولا شيء غير ذلك.
للسعادة مفاهيم كثيرة، وأشكال عديدة، تختلف من شخص لآخر، ولكن في النهاية هي شعور إيجابي نسعى جميعاً لتحقيقه في حياتنا المليئة بالأشغال والمسؤوليات والطموحات، وسط كل هذه الأعمال، يكمن سر السعادة، الذي لن تراه إلا إذا نظرت بعين جديدة، فيظهر أمامك كهالات النور في نفق مظلم، تكمن السعادة في الجهد والمشقة والإنجاز، في تحقيق الأهداف والغايات.
ماذا تنتظر مني أن أكتب فوق صورة فنجان القهوة؟ صباحكم سعادة؟ نعم قد يكون سعيداً، ولكن من المؤكد أنه شاق ومتعب.. نبدأ صباحنا بالقيام من فراشنا الدافئ لنبدأ اليوم الدراسي الطويل، أو دوام العمل الروتيني، أو للقيام بأعمال أخرى تتطلب طاقة وعطاء، مثل إدارة البيت والاعتناء بالأطفال، وما شابه ذلك، هذا هو حال الدنيا، لقد جُبلت على المشقة، وهذا هو سر السعادة بها، جرب ألا تفعل شيئاً ليومين أو ثلاثة؛ لا تدرس، لا تعمل، لا تفكر، لا تتواصل، ستصيبك الكآبة بلا شك؛ لأنك خالفت طبيعة الحياة.
الراحة مهمة، ومطلوبة، ولكنها تحلو بعد الأعمال الشاقة والإنجازات المتتالية، تحلو لأن بعدها أعمالاً أخرى وأهدافاً جديدة، تحلو لأنها ليست طويلة، تخرج من دوامة الأعمال لتستريح، كالذي يجلس على كرسي بعد ركض لساعات، ليلتقط أنفاسه، ثم يعود للعمل والابتسامة تعلو وجهه من سعادة الإنجاز.
حتى إن العبادات بها من المشقة ما بها.. لماذا؟ لنصل إلى السعادة والأنس بالله وتسمو أرواحنا، فعلينا أن نبذل جهداً بدنياً وروحياً لعبادة الله كما يجب، فالصلوات على وقتها وما بها من حركات ركوع وسجود واتصال روحي، ناهيك عن صلاة الفجر وقيام الليل، والاستيقاظ من عمق نومك، لتتوضأ وتصلي، الصيام وما به من مشقة بالغة من الفجر حتى المغرب، وليس صيام البدن فقط، بل القلب أيضاً في حالة صيام، يستشعر صِغر الدنيا ويتذكر الآخرة، ويرجو رحمة ربه.
حج بيت الله الحرام الذي يُصرف به أموال طائلة لأدائه ويُهلك البدن، ليسمو بالروح إلى السماء، ويجعل كل ما في الأرض يهون من أجل نظرة إلى الكعبة ووقفة بعرفات، كذلك الإنفاق، سواء كان صدقة أو زكاة؛ فنتحمل مشقة نفسية بإنفاق ما نحب لإخراجه في سبيل الله، قال تعالى: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" .
أتعلمون.. إنه حقاً سر، لأنه مدفون بنقيضه، لقد دُفنت السعادة في المشقة فلم يذقها إلا من كـدَّ واجتهد وصبر، فأصبح الجميع يبحثون عنها وهي بين أيديهم، إن السعادة حالة مصاحبة لنا خلال الرحلة وليس بعدها فقط، خلال المذاكرة وليس بعد النجاح فقط، خلال العمل وليس بعد الترقي، كذلك هي خلال الصلاة وليس بعدها، خلال الطواف بالكعبة وليس بعده، خلال الإنفاق وإخراج أموالك وليس بعد أن يرزقك الله بدلاً منها.
السعادة ليست في الراحة وإرضاء شهواتنا من ملذات الدنيا؛ إنما السعادة في مقاومة النوم لقيام الليل، في مقاومة حب المال لإخراج الصدقات، في الاستيقاظ باكراً لتحصيل العلم، في إتقان العمل والصبر عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره" .
ها قد علمنا سر سعادتنا، لنفتح خِططنا من جديد، ونتمسك بأهدافنا، ونتعلق بالأحلام التي نظنها مستحيلة، ونبذل الجهد ما استطعنا، انظر بعين جديدة ستجد أنك سعيد جداً، بتعبك وسهرك الليالي، وألمَ رأسك وأوراقك المبعثرة، واستراحتك القصيرة، ونومك القليل، وطموحاتك الجميلة، التي تأتيك في خضم عملك كنسمات هواء رقيقة، فتسرح بخيالك، وترى نفسك مُحققها، فترتفع عزيمتك، ويشتد أزرك.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.