«الحيطان لها أحضان»

عربي بوست
تم النشر: 2019/07/25 الساعة 12:18 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/07/25 الساعة 12:18 بتوقيت غرينتش
إننا مغرمون بالأماكن والجمادات لأنها تكون بلا أرواح في البداية ثم نهبها نحن الأرواح

تقول أمي إنني أحب "الكراكيب"، كانت تستغل غيابي عن البيت لتشن حملة نظافةٍ –مزعومة- على غرفتي، تأتي فيها على الأخضر واليابس، وتتخلص مِن أصدقائي الحميمين –الكراكيب في نظرها- فأشن أنا حرباً حامية الوطيس ضدها اعتراضاً على مصادرة أملاكي، تسألني: ماذا تفعله نصف صورة بالية على الجدار؟ ماذا تعني مقالةٌ قديمةٌ من صحيفة مهترئة يا ابني؟ ثم دعنا من هذا، ما الذي يفعله هذا الكم من ورق "السلوفان" في غرفتك؟ وهل يحتفظ إنسان عاقل بعلبة فارغة تحت سريره لمدة ثلاث سنوات؟

في النهاية وبعد كثير من المفاوضات، وقَّعنا عقداً يفيد بأحقيتي في غرفتي وما فيها، وأن تُسلم أمي أمرها لله بأن ابنها مجنون؛ لأنه واقع في حب الجمادات، وأصدقاؤه عبارة عن مجموعة من التماثيل الصغيرة، ودفاتره لا تنتهي صلاحيتها، وعلَبه ولعَبه ممنوع لمسها، وخِرَقه لا يأتي عليها زمان لتُلقى في القمامة، وباب غرفته معرض للصور، وجداره عبارة عن مظاهرة كبيرة مجسَّمة، كأنها لقطة من مسيرةٍ تكاد تسمع صوتها وتشم غازها وغبارها، قرر هو أن يخلدها على الجدار بالورق والجرائد والرسم والصلصال.

في الميدان، كانت "الكوفيَّة" الفلسطينية لا تفارق عنقي رغم الحر الشديد، لأنني لم أكن أرى فيها وسيلة للدفء في الشتاء وجثةً في الرف الأعلى من الدولاب طوال الصيف، وإنما كنت أراها صديقةً قريبةً إلى حد خنقي، تتعبني بوجودها لكن غيابها كان يتعبني أكثر، منذ أيام المدرسة وأنا أحملها، وفي يوم المجزرة لم تفارقني، كنتُ كلما أوشكت على الاستسلام للموت تقول لي: "هانَت، لم يبقَ إلا ساعتان وتنجو"، فأقوم من حتفي لأواصل الحياة.

على مكتبي نصف زجاجةٍ بلاستيكية، حولها كيس أخضر، تطوقه أسورة أهداها لي صديقي في آخر لقاء قبل سفري، بها قلمٌ عمره خمس سنوات، سنتان قضاهما بين أصابع صاحبي، والثلاث الأخيرة كان في يدي، إلى أن انتهى عمره قعيداً، بعد السقوط من طاولة المطعم، فأُحيل رغم أنفي للتقاعد. بجوار المقلمة الخضراء حجرٌ أزرق يشبه الكون في الليل، عمره عامان، وبجواره مفكرة صغيرة اشتريتها منذ أشهر ولم أكتب فيها حرفاً واحداً لكنها تشعرني بالقرب أكثر من البقية، اشتريتها لتكون للصمت، لكل الكلام الذي لم أُجِد صياغته في أخوَاتها.

أول ما جئتُ إلى السكن الطلابي في تلك المدينة البعيدة، الغربة فوق الغربة، وجدت مكتبي يلمع كأنه خرج للتو من صالون حلاق، وأنا لا أستطيع الحياة بين جمادٍ صامت، فاخترت صوراً تحمل الذين أحبهم وطبعتها، وأجلستُهم على الجدار مقابل عيني، وطوال عامين لم أنظر إلى أحدهم وأجده لا ينظر إليّ، حتى في أشد حالاتي قرفاً من نفسي ومن الناس، كنتُ محل اهتمامهم، الصور، التي تحمل الذين أحبهم، فوق مكتبي، على الجدار.

في مقهى المدينة العتيق اخترتُ ركناً، صار مهربي كلما استوحشتُ الدنيا، ودائماً ما أستوحشها، أجلس فيه أربع ساعاتٍ نهاية الأسبوع لا أفعل شيئاً، وإنما -فقط- أراقب الناس والجدران، وأراهما –بقدرة قادر- يتصافحان، أرى الزمان ملموساً حين أتعمق في تفاصيل المكان، أجدهما بُعدين لا يفترقان أبداً، كلاهما متمم لصاحبه. في تلك المدينة أُعجبتُ بفتاةٍ، تعارفنا ودعوتُها إلى المقهى، أجلستُها إلى الطاولة لكن على الكرسي المقابل لي، أجل أعجبتني، لكنه ليس سبباً كافياً لأتخلى عن ركني المفضل، خصوصاً أنني غير مستعد لأخسرَ علاقتي بصديقي الخشبي من أجل فتاة. رحلَت الفتاةُ بعد مشروعِ حب لم يكتمل، وبقيَ الكرسي.

وأعود أسأل لماذا نتعلق بالأشياء أكثر من الأحياء؟ بالجمادات أكثر من البشر؟ لماذا نحن مرتبطون بالأماكن أكثر من ساكنيها، وبالممتلكات أكثر من مالكيها، وبالصوت أكثر من الكلمات، وبالألحان أكثر من الأغاني، وبالعيون أكثر من الوجوه، وبالسكنات أكثر من الحركات، بالرائحة أكثر من الطعم، وبالفنجان أكثر من المشروب، مرتبطون بكل متفرد لم يعلق به سوانا، وساكنون بالزوايا المهجورة التي يمر من خلالها الجميع بلا انتباه، بينما نفر نحن إليها بكامل انتباهنا؟

ربما الجوابُ أن اللحظات لا تتكرر، الثانية لا تعود ثانيةً، واليوم غير أمس أو الغد، أما الذكرى فهي التي يمكنك أن تراها ألف مرةٍ ولا تذهب، الكوب حتى وإن كُسِر فهو باقٍ معك، أما مُهديه إليك فقد يكون غادر منذ زمن طويل، المِسبحة التي ورثتها من جدتك عمرها أطول، والأسورة التي نسيَتها صديقتك ذات يومٍ معك في جيب الحقيبة لن تتركك، والصورة التي على الجدار تخلد البشر الذين يفنون.

ربما –بشكل خاص- لأنني أخاف من الزمان، أخاف من شعور أنني أكبر، يقول لي الناس ذلك بصراحةٍ متعبة، لكنني أرفض الاعتراف، ولا يوافقني في إنكاري للزمان إلا دفتري الذي لا يشيب، يخبرني كلما فتحتُه أنني ما زلت صغيراً، وسطوري المائلة ما زالت تميل بنفس الزاوية، وخطي نصف الجيد ما زال كما هو، وملمس الصفحات على أناملي يخبرني أن ملمسي أيضاً ما زال كما هو منذ نزلتُ من رحم أمي، وتخبرني غرفتي التي لم أبت فيها منذ ست سنواتٍ، أنها في انتظار الليلة التي أعود فيها إليها، فتتحول آلةً للزمن، تعود بي إلى عمر السادسة عشرة، وتنادي أمي لتغطيني باللحاف، ولأشعر بأنفاسها تقترب فأمثل أنني نائم كي لا أقطع لحظة قربها المقدس، وأغيب عن عيون الناس، إلى أنفاس أمي، وظلام غرفتي، وعناق الجدران.

إننا مغرمون بالأماكن والجمادات؛ لأنها تكون بلا أرواح في البداية، ثم نحن الذين نهبها الأرواح، فنألَفها لأننا نُؤلفها، ونحبها لأنها تحبنا، ونحملها لأنها تحملنا، وتشبهنا في ألوانها وألحانها، في صوتنا وصمتها، في حِجرها الذي من أحجارها، فننفي عنها –في المقابل- تهمةَ المجاز الذي يرهّبنا منها حين يقول: "ششش، الحيطان لها ودان"، فنقول نحن لهم: لا، بل "الحيطان لها أحضان".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد