ليس كل ما هو كروي حبة جوز

عربي بوست
تم النشر: 2019/07/18 الساعة 15:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/07/18 الساعة 15:46 بتوقيت غرينتش
إياك أن تحكم على مقدار سعادة أو حزن أحدهم عن طريق مظهره

في مقابل الحكمة المشهورة التي تحذِّر من الاغترار والانجراف وراء المظاهر، واحتسابها شيئاً ذا قيمة، وعند الاقتراب منها نرى حقيقتها وزيفها، وهي الحكمة القائلة: "ليس كل ما يلمع ذهباً"، قد نمر بمواقف تُرينا وتُسمعنا حِكماً أخرى تقف على الطرف النقيض تماماً منها، وإن تبدو ظاهراً وأحياناً تتشابه مع أختها في المبدأ، ولكننا نستطيع تأويلها أيضاً بصورة أخرى، ومنها التي تتداول باللهجة الدارجة: "مو كل مدعبل حبة جوز".

قد نفهم من هذه المقولة حكمة مفادها ألّا تحكم على كل شيء دائري بكونه جوزاً، فقد يكون قطعة حجر لا قيمة لها، وأيضاً تضعنا الأيام في مواقف كثيرة تثبت صحة هذه المقولة، ولكن بتفسير آخر وهو: قد يكون هذا الشيء حبة لؤلؤ نادرة، أو جوهرة لا تقدَّر بثمن، وإن كان الظاهر باهتاً لا يدل على ذلك.

حسناً متى نعرف ذلك، بالطبع بالتجربة أولاً، وبالشدائد، وكما يقال: عند الشدائد يظهر المعدن الأصلي، وإن لم نكتشف فلا نحكم سريعاً، وهناك عدة حالات مرَّت بنا أو بغيرنا، تُترجم ما قلناه عملياً من جهة، ومن جهة أخرى تعطينا دروساً كثيرة تربِّي النفسَ على عدة مفاهيم، ومنها:

الألم الكبير.. لا دموع له 

إياك، ثم إياك أن تحكم على مقدار سعادة أو حزن أحدهم عن طريق مظهره، أو من خلال كلماته، المرأة الثكلى أو الأب المفجوع بابنه مثلاً، لا نملك أدنى حق في أن نقرر أن حزنهما لا يتناسب مع مقدار مصيبتهما، وخصوصاً إن لم نمر بموقف مشابه له، تلك العين الجامدة، والوجه القليل التأثر، أو حتى بعض الأفعال قد تكون الصدمة، وعدم التصديق، وقد يفضلون البكاء بمفردهم، أو بمعنى أجمل قد يكون نتاج قوة جاءت من التصبّر واحتساب كل الأمور إلى الله، وذلك إن دل على شيء فهو يدل على الإيمان الراسخ، وليس اللامبالاة كما نظن اعتباطاً!.

أفضل صدقة هي صدقة السر

فلان من الناس يملك أموالاً لا تأكلها النيران، ونحكم عليه هكذا جزافاً بأنه بخيل أو جشع، بدليل أنه لم يساهم في مشروع خيري ما مثلاً، قد يكون ذلك فعلاً، وقد يكون على العكس، فهو يفضِّل أن يتصدق سراً لأنها أعظم أجراً، فعينه على المولى، ويروم الإخلاص، وليس الناس وما يقولون في كرمه وعطفه.

وفعلاً كم من أشخاص لم يعرف الآخرون عن أعمالهم الخيرية إلا بعد موتهم.

بين الخيال والواقع.. هناك حقائق مغبونة

عثر ماكس برود على قصاصة كتبها صديقه الكاتب في ساعة يأس ومعاناة من مرض السل، يرجوه فيها "رجاء أخيراً" بأن يحرق كافة مخطوطاته غير المنشورة، ومنها رواياته الثلاث، وذلك لأنها أيضاً غير مكتملة، لكن لحسن الحظ لم ينفّذ برود وصية صديقه، الذي لم يكن سوى "فرانس كافكا" الشهير، الذي لم يستقطب أثناء حياته انتباه الناشرين والقراء.

نعم، فهناك الكثير من الإجحاف والغبن قد يقع نتيجة الحكم السطحي على أنفسنا أو غيرنا، بسبب ضعف الثقة بالنفس أو اليأس.

بعد تلك الحالات، قد نعرف سبب تقدم الغرب عنّا بعدة قرون ضوئية، فنجد أحد أسباب تطورهم في أنهم يرون كلَّ طفل مشروعَ مبدع، حتى وإن لم يملك مؤهلات النجاح، فالغبي ينظرون له كذكي، والذكي كعقبري، وهناك قول لأحد الخبراء في التجميل، الذي يعمل في إحدى دور الأزياء العالمية، عندما سئل عن سبب نجاح عمله، فأجاب بأنه يستطيع أن يحوّل القبيحة إلى جميلة، والجميلة إلى ملكة جمال!.

وهكذا ليس كل ما نراه عادياً هو عادي، وليس كل ما لا يحرك إعجابنا هو قبيح أو فاشل أو سيئ، ثمة اعتقادات تأتي من النظرة القاصرة، وهي بحاجة إلى غربلة، وهذه الغربلة تبدأ بعدة أمور علينا أن نضعها في الاعتبار، وهي ألَّا نحكم على الظاهر، وألَّا نمارس التنظير من بعد، والإيمان بأن الله وحده من يعلم الغيب ويزكّي الأنفس ويميز الصالح من الطالح.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
رقية تاج
قاصّة وكاتبة مقالات
رقية محمد صادق تاج، عراقية وُلدت في دمشق سنة 1990، حاصلة على بكالوريوس إعلام، قسم الصحافة، جامعة بغداد. كاتبة مقالات وقاصّة، لها مجموعة قصصية قيد الطبع، وحالياً هي مديرة تحرير موقع "بشرى حياة".
تحميل المزيد