نود أن يتعرف عليكم قراء القرن الحادي والعشرين.
يتنحنح الرجل طويلاً، ثم نطق وهو يضغط على أواخر الكلمات: كنت أود يا بني لو أرسلت إليَّ الأسئلة مكتوبة، ثم وافيتك بالجواب مكتوباً بخطِّ يدي أو على الآلة الكاتبة أو حتى على الجهاز الذي لم تتفقوا على تسميته؛ فتارة هو الحاسب وأخرى الناظوم وثالثة الكمبيوتر! ولتعلم أني أخاف من الخطابة بل ترتعد منها فرائصي.
قاطعته متلطفاً ومشجعاً في الآن ذاته: أجل! وقد تابعك في ذلك عدد من أهل الأدب والكتابة، منهم إبراهيم عبدالقادر المازني ونجيب محفوظ كذلك.. لكن وجه الرجل تغير ساعة ذكرت له المازني، وقال لي بهدوء: لنتابع ما جئتني في طلبه! قلت: نعم!
لنتعرف على بداياتكم ونشأتكم في منفلوط
الحديث عن هؤلاء الأعلام من رموز الثقافة في العصر العباسي يسوقنا للتعرف على الرموز الذين تأثرت بهم بشكلٍ مباشر ممن عاصرتهم؛ فمن أبرزهم؟
لكن الأهم من ذلك: ماذا جرى بعد دخولك السجن؟
تنهّد المنفلوطي، وبعد أن شخص بصره مدة، ابتسم قائلاً: بعد ستة أشهر قضيتها على "البُرش"، توسط الشيخان عبده ويوسف، وخرجت من السجن ولم يُسمح لي بالعودة للدراسة، فلزمت الشيخ محمد عبده عشر سنوات، وأفدت من علمه وفكره، وانتقل الشيخ إلى جوار ربه يوم 11 يوليو/تموز 1905، فضاقت عليَّ القاهرة بما رحُبت، وعدت أدراجي إلى منفلوط. تزوَّجت وقررت أن ألزم منفلوط ما حييت، وانزويت فيها عامين، ثم راسلني الشيخ يوسف وطلب إليَّ أن أكتب مقالاً أسبوعياً في المؤيد؛ فعدت إلى القاهرة مرة أخرى، وكنت أطل على الناس كل خميس، وأحياناً كل اثنين، وفق ظروف الطبع والنشر، وجمعت هذه المقالات في (النظرات)، ومن خلال الشيخ يوسف تعرَّفت إلى زعيم الأمة سعد زغلول باشا، وتوطدت علاقتي به إلى يوم وفاتي.
وللشيخ علي يوسف أفضال جمة لا أحصيها، ومنها أنه لما توفيت زوجته حاول الشيخ أن يزوِّجني ابنته، لكنني رفضت لا لشيء إلا لأنها أغنى مني، وكنت قد أنجبت من زوجتي توأمين وثلاث بنات، ثم تزوجت للمرة الثانية من سيدة قاهرية سنة 1911، ولي من زوجتي الثانية ابني "فاضل"، وقد مات في حياتي، وأنجبت أمه من بعده ولدين وأربع بنات.
ولما عيِّن سعد وزيراً للحقانية (العدل) نقلني معه، ثم تولى وكالة الجمعية التشريعية، فاصطحبني حباً فيَّ واعترافاً بمكانتي؛ فكنت سكرتيراً للجمعية حتى تاريخ نفي الزعيم إلى مالطة في مارس/آذار 1919، وفصلني الإنجليز من وظيفتي تشفياً مني وانتقاماً. وعاد الزعيم من منفاه، فأعاد لي اعتباري وردني إلى الجمعية التشريعة، فلما تولى رئاسة الوزارة وافتتح البرلمان، عيَّنني رئيساً لإحدى لجان سكرتارية المجلس، وظللت على رأس هذا العمل حتى وفاتي.
فاتني أن أذكر لك أني بعد خروجي من سجن الحوض المرصود، عدلت عن الصدام مع الساسة وأهلها، والتزمت باب الأدب العربي حتى ميلاد ثورة 1919؛ فتابعت زعيمها وأخرجت "في سبيل التاج"، وهي رواية فرنسية ترجمتها وكتبت مقدمتها مصوِّراً كفاح الشعب ضد الظالمين، ثم أنجزت كتاباً عنوانه "القضية المصرية"، لم ير النور بتدبيرٍ من عبدالخالق ثروت باشا، ومن بعده إسماعيل صدقي باشا سنة 1929، وبلغني أن محاولات ورثتي المتتابعة لنشر هذا الكتاب ذهبت أدراج الرياح.
لماذا شنَّ عليك النقاد حملتهم الضارية؟ وما ردك على هؤلاء ومن انتظم في سلكهم؟
اسمح لي أن نرجِئ الحديثَ عن هؤلاء إلى وقت آخر، وعندي الكثير لأقوله وسأحدّثك عن كتبي ثم النقاد حابلهم ونابلهم، ولعلَّك تحسن النقل عني وتكون سفيري عند شباب واتساب وفيسبوك وتويتر، وتخبرهم أنني لاقيت من هؤلاء ما لم يلقه فيدرير وسيرينا من تسيتسيباس وأوساكا؛ فإلى لقاءٍ قريبٍ يا ولدي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.