حكاية شاب مغترب مع «جواز» صالونات!

عربي بوست
تم النشر: 2019/07/07 الساعة 15:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/07/07 الساعة 15:17 بتوقيت غرينتش
صورة زوجان وخاتم الزواج /iStock

تصل الآن على رصيف (2) الرحلة رقم 777 القادمة من مطار جدة. وهي الرحلة التي سيأتي على متنها سيد. أحمد صديق طفولته وإبراهيم صاحب أحمد؛ وصاحب السيارة التي حملتهم إلى المطار، في انتظاره. ها هو يرى صديق عمره بعد عامين من الفراق، أحضان طويلة وقُبلات لا حصر لها، حتى بينه وبين إبراهيم الذي لم يقابله من قبل! أحضان تنمّ عن امتنان شديد لقدومهم من أجله، أعتقد أن ما نطلق عليها "أحضان مطارات" لا يكون للشخص الرابض أمامنا بقدر ما هو للموقف.. للذكريات.. ولأنها سُنة المطارات.

لم يفترقا كل هذه المدة منذ نعومة أظافرهما، عاد سيد بحقائب كثيرة؛ لكن ليس مبالغاً فيها بالنسبة لشخص في زيارته الأولى من الغربة. السبب الرئيسي للعودة يعلمه الجميع دون حرج؛ وهو الزواج، هذا طبعاً بعد الحصول على عروسة مناسبة. لديه شهران أو لنكُن أكثر دقة 58 يوماً إذا استبعدنا يوم قدومه ويوم عودته، لا بد ألا تنتهي هذ المدة إلا وبين يديه عقد زواج، مِن مَن؟  لم يتسنَّ له معرفة ذلك بعد، المهم أن تنطبق عليها المواصفات التي اتفق عليها مع والدته، وللحقيقة لم يكونا مبالغَين كثيراً.. المهم أن تكون الفتاة من أسرةٍ جيدة ميسورة الحال، ذات جمال معقول.. على خُلُقٍّ، أصغر منه بنحو خمس سنوات، أقصر منه بما لا يقل عن عشرة سنتيمترات.. حاصلة على تعليم عالٍ لكنها لا تعمل، أو على استعداد لترك العمل، قنوعة، زكية، ليست عصبية ولا عنيدة وفقط!

سيعود إلى عمله بعدها، ليستخرج أوراقاً تمكِّنه من استقدامها معه، سيأخذ إجازة لمدة أسبوع مدفوع الأجر من العمل، ويعود ليُتم زواجه ويقضي بضعة أيام من شهر العسل في مدينة ساحلية، ثم يسافر إلى عمله ومعه زوجته، نعم سيأخذها معه كان هذا شرطه الأساسي في المرة الأولى التي طلب فيها من أخته وصديقه أحمد البحث عن عروسة، فلن يترك زوجته لنابشي أجساد زوجات المغتربين، الذين يتشمّمون رائحتهن عن بعد، يعلم كثيراً من قصصهم، لذا لا مفرَّ من أن تكون زوجته إلى جواره هناك؛ تشاركه همومه وآلامه بدلاً من أن تبقى ها هنا لتنعم بما يرسله إليها من أموال، ويصبح هو كطورٍ في ساقية، على حد تعبيره.

كل شيء تم الإعداد له، أخته رشحت له فتاتين: إحداهما زميلتها في العمل، والأخرى تعرفت عليها في الصالة الرياضية التي تواظب عليها. صديقه أحمد أيضاً لديه واحدة وهي جارتهم، وإبراهيم حين علم سبب الزيارة من أحمد بحديثهما في اثناء قدومهما للمطار، أخبره  دون حرج بأن أخته "أولى من الغريب". أضِف إلى هؤلاء تلك الفتاة القاهرية التي يحادثها على الإنترنت بانتظام منذ عدة أشهر، وتقاربا بشكل كبير حتى إنهما أصبحا شبه متحابَين.

لن يكون هناك وقت للراحة، أخته حددت له موعداً مع الفتاتين في اليوم نفسه؛ اختصاراً للوقت وأعباء الزيارات، الجمعة سيكون الموعد، أي بعد غد.

أخيراً وصل إلى المنزل واستُقبِل بحفاوة كبيرة من أسرته وأقاربه؛ الذين انتظروه بشغف من ينتظر افتتاح طاقة قدر؛ لكنها لن تُفتَح. افتقد طعام أمه الشهي الذي من أهم مميزاته أنه مجاني، وللحقيقة افتقد شعور أن يحصل على أي  شيء دون مقابل.

ارتاح قليلاً من عناء سفره ثم انطلق مساءً لمقابلة أصدقائه؛ الذين أعدوا له ليلة من ليالي الزمن الغابر. مُذهِبات العقل بشتى صورها رغم أنهم يعلمون أنه لا يتناول أياً منها.. لكن لا بأس هم يتناولونها، وهكذا هي أصول الواجب وإلا فلا. نام ليلته الأولى على سريره جثة هامدة بعد تلك الليلة المدمرة. وبعد يوم روتيني آخر مع الأقارب والجيران حان يومه الأول في مهمته. علبتان من الشوكولاتة متوسطة الثمن سيَفيان بالغرض، ترك إحداهما في السيارة لموعد بعد العِشاء، وذهب برفقة أخته ووالدته لموعده الأول. لم يشعر بارتياح من الوهله الأولى، ولعل السبب في ذلك هو ما لاحظه من سيطرة السيدة على الرجل وكلامها نيابة عنه، وشيء من الفظاظة في تعاملها معهم. صارح أخته بذلك دون أن يلحظه أحد، فأخبرته بأنه لا بد من إتمام مراسم الزيارة إلى نهايتها ثم الاعتذار فيما بعد، الأمر ربما يكلفها انتهاء علاقتها بزميلتها، لكن لا بأس؛ ما دام الأمر يتعلق بأخيها العزيز.

أذّن العشاء فاستأذنوا للرحيل، للحاق بموعدهم الثاني، كانت الفتاة جميلة ومن الواضح أن عائلتها ميسورة الحال، لكنهم كما قال آنفاً معللاً رفضه: "متحررون أكثر من اللازم"، هو لا يدّعي أنه متدين، لكن حين يتعلق الأمر باختيار أُم لأبنائه لا بد أن يراعي وجود شيء من التدين والحشمة.

الأيام التالية شهدت زيارات مماثلة، وجميعها تقريباً بائت بالفشل. سيد شَعَر بإحباطٍ شديد ربما نجم عن توقعاته بأن شخصاً مثله قادم بأموال الخليج كان لا بد من أن يجد عشرات من الفتيات المثاليات رهن إشارته. إلا أنه اصطدم بحقيقة أن مواصفات فتاة أحلامه البسيطة -من وجهة نظره- ليست متاحة الآن. شيء من الاكتئاب ألقى بظلاله عليه في الأيام التالية، وربما فكَّر في التغاضي عن سيطرة والدة زميلة أخته، أو حتى في أنه لا مانع من قبول تحرُّر الفتاة الثانية ولو شيئاً يسيراً. لكنه تردد.

لاحظ أصدقاؤه سوء حالته النفسية، فقرروا اصطحابه إلى عرس صديق لهم لا يعرفه. رفض في البداية، وتحت وطأة إلحاحهم قَبِل. كان الأمر أشبه بعرضٍ لمساحيق التجميل حتى إنه خطر بباله أنه ربما يجد على ظهر كل فتاة من هؤلاء اسم المنتَج الذي تستخدمه، أو ما يفيد بأن هذا الحفل الذي تقيمه في وجهها برعاية شركة ما. في ظل كل هذه الألوان المتداخلة شاهد فتاة بلا أية مساحيق! جميلة؛ تجلس في رزانة بعيداً عن الأعين، ولها ابتسامة تدغدغ القلب. اقترب منها محاولاً لفت انتباهها دون جدوى، لاحظ عدم وجود خاتم للزواج أو الخطبة في يديها،  وهو ما يعني أن المحاولة مشروعة ولن يخسر شيئاً إن فشل. اقترب.. ألقى التحية.. استأذنها وصارحها بلا مقدمات في الحصول على رقم هاتفها أو عنوانها، لكي يأتي لمقابلة والدها.. ابتسمت وأشارت إليه بما يفيد بأنها لا تسمعه. همَّ برفع صوته وإعادة ما قال إلا أنها استوقفته بإشارة يدها.. عبثت لثوانٍ في حقيبة يدها.. أخرجت قلماً وورقة ووضعتهما على الطاولة وأشارت إليه أن يكتب هنا بعد أن قامت بعمل ِإشارتين متتاليتين على فمها وأذنها.. بدأ يستوعب الموقف! عيناه جاحظتان كشخص يحتضر.. شعر كأن سقف هذه القاعة قد سقط عليه وحده.. لم تمنحه الصدمة فرصة للخروج من الموقف بذكاء.. لم يدر ما عليه فعله.. تقهقر إلى الخلف وهو يكرر اعتذاراته.

أيام مرَّت لم يرغب في أن يتحدث فيها إلى أحد، لم يخبر أحداً بما حدث، يشعر بالحزن والخجل من نفسه. عاد إلى عمله بعد انتهاء إجازته دون أن يصل إلى مبتغاه. بعد شهرين أرسل توكيلاً إلى صديقه أحمد ليقوم نيابة عنه بكتب كتابه على صديقة أخته، بعد أن أقسمت لها أخته بأنه وقع في غرامها منذ النظرة الأولى؛ إلا أنه كان يحتاج بعض الوقت لترتيب أموره.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد عبدالحميد
باحث أكاديمي
تحميل المزيد