العائلة التي صوَّروها وهي تتسلم المساعدات في المخيم!

عربي بوست
تم النشر: 2019/07/07 الساعة 14:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/07/07 الساعة 14:16 بتوقيت غرينتش
ظاهرة تصوير الأعمال الخيرية تُبلِّد المشاعر تجاه هذه الصور وتكرار المشهد يُشكل بروداً عاطفياً ومللاً

قد يصاب الناس بألوان من العذاب، ويُمتحنون بضروب من المكروه، وتُرسل عليهم الآفات تختلجهم من هاهنا وهاهنا، غير أنهم يجدون لكل مصيبة محلاً من الصبر، يتمسكون فيه حتى تهون المصيبة، ولكن يبقى أثرها، في حرب مستعرة وبؤس تعدَّدت ألوانه وتشكَّلت صورُه، واحتشدت آثاره، حتى تفيض النفس بالألم، ويتخبط الإنسان هنالك على غير هدىً، تحضر الحكمة أحياناً وتغيب، يتخذ قرار ويُنفى بآخر، يبحثُ الإنسان هنا عن حفظ النفس والكرامة التي عُدت حيناً أغلى من الأرواح، فقد بكى الرجال لأجلها، وكأن الجبال اهتزت والأبدان اقشعرت لفقدها، فهي ليست سلعة تُشترى، بل مطلب يُبتغى.

بين تلك المصائب والظلام الحالك سيجدُ المرءُ نفسَه باحثاً عمَّا يحفظ الكرامة والنفس، ولا شيء غير ذلك، فكل ما سواهما كماليات يُستغنى عنها، خُيل لي للحظات أن أحدنا أصابه الإحباط بسبب الحرب التي حدثت في مدينتي، أنه هُجر وأصبح ضحية لحربٍ لا ناقةَ له فيها ولا جمل، سوى أنه أُقحم وأهل مدينته في حرب شعواء أحرقت الأخضر واليابس، هرب في تلك الخيمة مجبراً ليتَّقي حرَّ الصيف وبرد الشتاء، وليتها فعلت ذلك.

روَّض نفسه على تحمُّل المعاناة في صحراء قافرة أو هضبة أو وادي بعيداً عن أعين المتقاتلين، ليُضفي ذلك الهروب على وجوده تحت تلك الخيمة صفة لاجئ في وطنه، أو في أرجاء المعمورة، أي كان سيصبح فيما بعد يحمل بطاقةً تعبر عنه أنه لاجئ كذلك، ستُطبق عليه قوانين اللجوء وشروطه، وربما يمنع من الدخول أو من الخروج إلى مدينة أو أخرى، هكذا سيتم التعامل معه، سيُطالب البرلمان بحقوقه في جلساته المكيفة ويسنُّون القوانين ويشكلون اللجان، وهو يقبع تحت خيمة وضعها المعنيون بشؤون اللاجئين، يفترش الأرض ويتوسدُ التراب، نعم إنها صورة اللاجئ الحقيقية وهو تائه بين ركام الماضي وبؤس الحاضر، يحاول ستر نفسه وعائلتهِ ليتهافت عليه مدّعو الإنسانية وحقوقها، ويلتقطوا له صوراً مع سلةٍ غذائية أو ملابس أو أغطية شتوية، راح مهرولاً لتسلمها أو وقف بالطابور لساعات حتى استحصلها.

سبق إعلامي وصور مؤثرة ستهزُّ مواقع التواصل والإعلام، لعائلات سترت على نفسها بجدران الخيمة، لكن بعض الحملات التطوعية والمؤسسات الخيرية أبت إلا أن تحرجهم وتريق ماء وجههم، والذريعة في ذلك أن تصوير المستفيدين هو تلبية طلب المتبرعين الذين يودّون التحقق من أنَّ أموالهم ذهبت إلى أهدافها الصحيحة أو حث الجمهور والممولين على بذل مزيد من العطاء، متناسين المقصد الأول من هذه الحملات، وهو التخفيف من معاناة النازحين، وحفظ كرامتهم بعيداً عن التجريح والإساءة، فكان الاهتمام بالتصوير ومعداته والمركبات التي تقلهم إلى مكان المخيم والعطر الفاخر والملابس، أكثر من اهتمامهم بإنسانية المستهدَف وكرامته، مع استطاعتهم اتخاذ إجراءات بديلة، كان أن تكون الصورة بطريقة غير مباشرة أو حتى تصوير الفريق أثناء إعداد الحملة من دون تصوير العائلات في أثناء تسلمهم المعونات والمساعدات، لأن ذلك إهانة للعائلة المهاجرة، وخدش لكرامتها، التي ربما قبلت التصوير لأنها في أمس الحاجة لصندوق غذائي أو مساعدة.

فكرتُ مراراً بهذه الصور، وأثر جرحها في النفس لو كنت أحد الضحايا، كم سيكون لها أثر بالغ يُخط بقلم عريض في كتاب حياتي، لقد ذكر لي بعض العاملين في التصوير أنَّ مَن أرسله لتصوير مساعدته يُعطي الطرد الغذائي شريطة تصوير المستفيد، فكم حجم الإحراج والامتهان لكرامة الآدمي، الذي يتلقاه المرء ذو الحاجة.

لا ننكر هنا أن هناك من يعمل بإخلاص، ولكن الكثير من الحملات كانت كتجارة الحروب والرقص على آلام الناس وجراحاتهم واستغلال العاطفة في غياب للضمير الإنساني، وتسويق ذلك على أنه عمل خير عبر الإعلام، وأنه أشنع الأفعال وأفظعها، ووأد للعمل الإنساني.

أفكر كيف كان سيبدو وجه الحياة والآثار النفسية المترتبة على العيش في المخيمات، بل السجون التي تهدر فيها كرامة الإنسان بطريقة أو بأخرى، نتيجة الظروف المريعة السائدة فيها، ويأتينا من يتاجر بآلامنا ومصائبنا، ماذا سيكون الموقف؟! وما يشكله الاكتظاظ الحاصل هناك، وعدم الاستقلالية، وغياب الخصوصية، وانتشار الأمراض والأوبئة، وانعدام التعليم، وتشرد الأطفال وعمالتهم، واستغلال ضعف أهاليهم، والمتاجرة بهم في شتى الصور من الاتجار بالبشر، وبيع الأعضاء، إلى تصويرهم وهم يركضون لأخذ المساعدات أو يقفون في طوابير للحصول على فُتات المنظمات الدولية، والأخرى المحلية، ستشكل هذه اللقطة التي يتسارع المعنيون لأخذها عند هذا الطفل صورةً مأساوية تعيش معه مدى الحياة، ستُخلِّف أثراً نفسياً كبيراً وجرحاً لا يندمل.

إن انتشار ظاهرة تصوير الأعمال الخيرية يُبلِّد المشاعر تجاه هذه الصور، لأن تكرار المشهد يُشكل بروداً عاطفياً ومللاً، ولم يعد المرء يُعيرها أهمية، وربما يستاء من تكرار مشاهدتها، فيضيع رونق وخصوصية العمل الإنساني، حتى يضطر المسوّق إلى استخدام الكذب والمشاهد المسرحية المصطنعة للترويج والدعاية لعمله، وهذا ما لوحظ في أحد الفديوهات، نجد أنَّ المصور يسأل طفلة يتيمة: هل تشتاقين لبابا، حتى يثيرَ مشاعر الطفلة لتنهمر عيونها بالبكاء، في مظهر مؤلم يُدمي القلب، أراد المصوِّر منه الدعاية على حساب مشاعر الطفلة اليتيمة وكرامتها.

إنه شرط الإنسانية الذي واجهته هذه الطفلة بالبكاء، ولكن كتم الكثيرون قبلها دموعهم وأخفوها. 

ستبقى هذه الصورة تلاحقهم طوال الحياة عبر الإعلام ومنصّاته أو من خلال من رآهم وطبعت بذاكرته.

حتماً لها أثر نفسي بالغ لن يُمحى عبر الأزمان، وإن حاولوا فسيذكّرهم بها شرط الإنسانية القائم على الصورة المؤثرة والسبق الإعلامي؛ كونهم لاجئين في خيمة أو مستفيقين من نوبة الحرب التي أجهدتهم وأثقلت كاهلهم، عليهم أن يلتقطوا صورة مع ما يُقدَّم إليهم من فتات الإنسانية الصورية.

إن مادة العمل الإغاثي هي الإنسانية الصادقة الخالية من المشاعر المزيفة والمشاهد المسرحية، لكي يبقى رونقها وتحافظ على خصوصيتها، ولكن تلك الإنسانية المُدَّعاة للأسف نراها فقط في فيديوهات دعائية، غرضها جمع الأموال والاستجداء من المانحين في دول الخارج والمؤسسات الدولية، وضمان حصة المنفذين لهذا العمل الإنساني. 

إن ما يقدِّمه المصور أو مَن أرسله لها مهما كثر وزاد ثمنه لا يساوي دمعة طفلة يتيمة البتة، فكيف بإجبارها باستفزاز مشاعرها وجعلها تبكي، ألم تعلم أن الدموع غالية لا تنهمر إلا بحسرة النفس وحشرجتها!

فهل ظن الإنسانيون أن ثمن المساعدات ببكاءِ طفلةٍ، ليحصلوا على سبَقِ الصورة، وتؤثر في جمهورهم وداعميهم ليزدادوا دعماً. هنا يجب نعلم أن هذه الدمعة البريئة التي أُريقت هي كالدماء والأرواح التي أزهقت بغير حق، وأنها أعظم عند الله من طردٍ غذائيٍّ أو مساعدة مالية، يتحتَّم علينا أن يكون ألم هذه الصورة هو ألمنا، هي صورتي وصورتك، وإن نمنا في فراشنا الوثير واستيقظنا صباحاً تحت سقف يحمينا من برد الشتاء وحر الصيف، ولم نختطف اللقيمات اختطافاً، بل جلسنا على مائدة متعدِّدة الأصناف، ولم نضطر للجوء إلى المخيم.

فالمخيَّم لمن سكنوه هو ذاكرتهم التي لا تنطفئ، وبعض وطنهم الذي نقل أحاديث عيونهم، وشكوى وجعهم ومعاناتهم. 

ولا شك أن للعمل الإنساني التطوعي غاية نبيلة، وهي تخفيف تلك الآلام، وأن يكون الإنسان كريماً عزيزاً قويّاً، يعطي ولا يأخذ، ولكن بعض الانتهازيين حول هذا العمل إلى دعاية زائفة وتجارة فانية، مستغلاً من أصابه شيء من ضيق الدنيا، في ظروف قاهرة ولدت الفقر والحاجة عند الناس، من بعد غنى ويسر. 

وولدت الجشع الذي حكم سلوك الإنسان أيضاً، وسيطر على إنسانيته حتى تخطى بعض السلوكيات، ففي سبيل الصعود على سلم العيش الكريم أصبح الإنسان لا يُبالي أن تُداس كرامة أخيه الإنسان، لا أعلم هل عمِيَ بصرُه وفسدت بصيرته، سُفكت الدماء وأُهدرت الكرامة، تلون المجتمع بألوان العنصرية، في حين ندَّد بها من روَّج لها من أبواق اللاإنسانية، لا نريد أن يحكم القوي الضعيف، ويسعى المسكين للعيش أكثر، ويرمي له القوي الفتات يتلهَّى به، ويكتفي بالعيش تحت ظل الذل والاستبداد. علينا ألا يُنسينا سبيل الاستمرارية في هذا العالم أن يحكمنا الحب والألفة قبل القوة، وتجمعنا المودة والإخاء والتعاون، وأن نضمن استمرار التعايش والتسامح، ولكن للأسف يبدو أننا فقدنا البوصلة، وتغيرت سلوكياتنا تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين، فمَن يستطيع أن يوقفنا إذن من المساهمة في تفاقم الكارثة الإنسانية؟ هل سنُوقف أنفسنا؟! 

هل من سبيل لاسترجاع القليل من الإنسانية بقلوبنا، بعد أن دمَّرتها أيادينا وتورَّطت بجرمها ضمائرنا؟!

علينا أن نسعى لازدهار الإنسانية وتقدّمها، ويتجلَّى ذلك في كيفية الحفاظ على كرامة البشر وعزتهم، وضمان حريتهم، والحرص على ضمان العيش لجميع أفراد المجتمع بسلام وتسامح وأمان، دون استعلاء وامتهان لأحد. 

 هنالك سنسقي وردة الإنسانية، ونزرع بذورها بأجسام أجيالنا وصغارنا الخصبة، ونعلّمهم أن قيمة الإنسان في مدى احترامه للغير، لعلنا نقترب من الإنسانية من جديد ولا نؤذي غيرنا في سبيل رخاء عيشنا، فشوك الورد لا يؤذي الورد لكي ينمو، فكيف للإنسان أن يؤذي إنساناً من أجل تقديم مصلحة أو غاية منشودة. 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد السنجري
طالب بكالوريوس إعلام ومهتم بالقضايا الإنسانية
تحميل المزيد