من المستحيل أن يفهم أحد ماذا يعني أن يهطل المطر فوق فتاة بشعر مجعد وهي في مشوارها الغرامي الثالث، ومن المستحيل أن يفهم أحد أصلا ماذا يعني أن تعيش فتاة بشعر مجعد في عائلة كل بناتها ذوات شعر مسترسل كالمكانس الناعمة كما تصفه جدتي، فهذا أمر لا يفهمه إلا من عاشه! كلهن، كلهن تنسدل شعورهن الناعمة باستقامة على ظهورهن، أخواتي، بنات أعمامي وعماتي، بنات خالاتي وأخوالي، بل حتى جدتاي!! وأنا الوحيدة التي يقف شعري مثل النوابض الممطوطة في كل الاتجاهات، غير عابئ بجاذبية نيوتن!
تشرح عمتي الكبرى الأمر بأنه كان لي جدة بعيدة لأمي بشعر مجعد، وأن هذا هو التفسير الوحيد لظهور هذه المورثة اللعينة فيّ! نعم إنها مورثة لعينة، وإلا فما الذي دعاها لتترك كل هذه الأجيال، وكل هؤلاء القريبات، وتظهر في رأسي أنا فقط؟ أسأل نفسي هذا السؤال ألف مرة وأنا أتعارك مع مصفف الشعر قبل كل زيارة أو اجتماع عائلي، بينما لا تحتاج قريباتي أكثر من تمرير أسنان المشط بين خصلاتهن الناعمة بيسر، لتنسدل شعورهن إلى الأسفل وتنتهي القصة، أما أنا فإنني لو فكرت في تخليل أصابعي بين خصلات شعري لعلقت في منتصف الطريق! وليت المصفف يساعدني لتشذيب هذه اللوالب المتطايرة، إنه فقط يخفف من حدة التفافها، ولكنه يبقيها متشنجة ومنفوشة ومقاومة للجاذبية!
تطلق قريباتي النكات عن شعري أحيانا، ويتعاطفن معي أحيانا أخرى، بينما تسرد علي خالاتي وعماتي عند كل لقاء وصفة جديدة سمعنها بالصدفة عن تنعيم الشعر، وهكذا يبدأ الحديث بذكر الوصفة، ولا ينتهي إلا وقد أعيدت على مسامع الجميع قصة شعري المجعد الذي نبت فجأة كالحشائش الضارة في جنة الشعور العائلية الناعمة هذه، وأفكر في سري وأنا أجاملهن بابتسامة ثقيلة: هل فعلا لم يبق أي هم لدى هؤلاء النسوة سوى الحديث عن شعري؟
ومع كل هذه المعاناة، لن أستطيع أن أصف سعادتي بمكواة الشعر الألمانية الرهيبة، التي أرسلها لي عم أمي من ألمانيا قبل شهرين، والتي حلت لي مشكلة حياتي! صحيح أنني لا أعرف الرجل، إلا أن إرساله لي أنا تحديدا هذه الهدية، وبدون مناسبة، جعلني أدرك أن خالاتي نجحن في تدويل قضية شعري وإرسالها إلى ما وراء الحدود!، لكن هذا ليس مهما، المهم الآن أن هذه المكواة السحرية جعلتني أحصل على شعر مسترسل بمجرد إعمالها في شعري لمدة ساعتين قبل أي مناسبة، ثم صارت هاتان الساعتان ساعتين يوميا أمام المرآة، فاستخدام هذه الآلة تحول إلى نوع من الإدمان، وأنا لم أعد قادرة على مطالعة شعري المجعد في المرآة أبدا، حتى لو كلفني الأمر الاستيقاظ في الخامسة فجرا كل يوم لأكويه. ومع الوقت ازدادت خبرتي باستخدام المكواة، وصرت قادرة على فرد شعري خلال ما يقارب الساعة، وصرت أستطيع كقريباتي أن أخلل أصابعي بين خصلاته بسهولة، وصرت أعاني مثلهن من انسدال غرتي على عيني فأزيحها متأففة، وصرت قادرة على إلقائه يسرة ويمنة عند الرقص بكل يسر، المهم فقط ألا أتعرق، لأن أي رطوبة من أي نوع ستزيل أثر تلك الآلة السحرية عن شعري، وستجعل لوالبي تتشنج وتقفز في الهواء من جديد.
– إياك أن تتزوجي رجلا بشعر مجعد يا دنيا، عليك أن تفكري في مصلحة ذريتك! كان ذلك تعليق جدتي "اللطيف" في غمرة الحديث عن الزواج في أحد اجتماعات العائلة، نعم لم تفلح المكواة الجديدة في تخليصي تماما من لعنة شعري، وظلت الأحاديث تنحرف بشكل أو بآخر لتدور حوله. هززت رأسي لجدتي بابتسامة متكلفة، وقمت أجمع أطباق الحلوى لعلي أفلح في وأد هذا الحديث لحظة ولادته.. كنت أطبق الأطباق بعصبية وأفكر: وماذا يعني لو تزوجت رجلا بشعر مجعد؟؟ ألم تر جدتي كم أن أحمد زكي وسيم؟؟ كنت لأذوب عشقا في رجل وسيم بشعر مجعد مثله!
ولكن الشاب الجديد الذي استأجرت عائلته المنزل المطل على حديقة جدتي قبل أشهر لم يكن يشبه أحمد زكي، بل كان شعره أكثر استرسالا من شعور بنات العائلة مجتمعة، لدرجة أن أخف نسمة كانت قادرة على العبث بخصلاته وتلويحها في الهواء عدة مرات قبل أن تعود لتسقط بهدوء على جبينه! وهذا الشاب الذي ذوب بنات العائلة بوسامته، هو ذاته الذي تجاهل ذوات المكانس المسترسلة كلهن، واختارني أنا، لتتحدث والدته لوالدتي بشأني.
وعاد موضوع شعري ليطفوا على سطح اللقاءات مجددا، هذه المرة بمسحة من الغيرة، تجلت في سخرية قريباتي اللاذعة أكثر بكثير من ذي قبل، وكان علي أن أواجه كل يوم تعليقات من نوع: ولكنه خطبك على أساس شعرك المكوي! ماذا سيحصل لو اكتشف أن شعرك مجعد؟؟ هذا غش يا دنيا، يجب أن تعترفي له بحقيقتك!!
تعليقات تنتهي بنوبات من الضحك، ينفسن بها عن غيرتهن، أما أنا فلم تعنني مسألة غيرتهن كثيرا، لأن ما قلنه لي كان حقيقيا، لقد غششته بالفعل، لقد اختارني على أساس شعري المكوي، فماذا سيحصل لو رآني على حقيقتي، وهل علي أن أعترف له بالأمر؟؟ كلا وألف كلا، يستحيل أن أفعل ذلك، وسأظل أكوي شعري طوال العمر، ولن أستطيع التعامل مع فضيحة من هذا العيار في العائلة لو تركني بسبب شعري.
ووجدت نفسي مذ تمت خطوبتي أفرط في استخدام المكواة صباح مساء بشكل جنوني، تحسبا لأي زيارة مفاجئة له أو لأمه، حتى بدأت أشتم رائحة الحريق من شعري، ولكنني كنت أداريها بصب العطور بلا توقف.. إن محمود شاب وسيم للغاية، بشعر أنعم من الحرير، إن شابا مثله هو أوسم بكثير من أن يخطب فتاة مثلي… لذا كان استبقاؤه بالنسبة لي مسألة حياة أو موت.
ولكن حبل الكذب قصير كما يقولون، ففي مشوارنا الثالث، وبينما كنا جالسين في الحديقة نتحدث عن بيتنا المستقبلي، بدأت السماء من فوقنا تهمهم برعد خفيف، فوقع قلبي من صدري… يا للعنة، إنه الصيف! ما الذي يجعل السماء تمطر في الصيف؟؟ ومن أين سآتي لشعري المكوي بمظلة!
انتصبت مذعورة:
– علينا أن نذهب الآن يا محمود!!
– ما الأمر حبيبتي؟؟
– ألا ترى؟؟ ستمطر!!
– ألا تحبين أن نمشي معا تحت المطر؟؟ لقد كنت أحلم بذلك دوما!!
"لا يا محمود لا، أنا لم أحلم بذلك أبدا، بل إن هذا هو أسوأ كوابيسي…" قلت في نفسي، وأنا أشعر بأول حبة مطر تسقط على خدي! يا إلهي، إنها لحظة الحقيقة، لحظة الحساب!! وتركته على المقعد ثم ركضت تحت المطر الذي انسكب من السماء دفعة واحدة، وأنا أداري رأسي بحقيبة يدي. خرجت من الحديقة أبحث عن أي ساتر أقف تحته، عن أي مظلة لأي مطعم، عن أي شرفة ممتدة في الخلاء، عن أي موقف.. كنت أريد أن أخبئ نفسي تحت أي شيء ينقذني من فضيحتي القادمة، ولكن المدينة كلها تحولت فجأة إلى جدران مصقولة عارية عن النتوءات، واشتد المطر حتى لم يعد ثمة أي جدوى من الهرب إلى أي مكان، فتوقفت… أسندت ظهري إلى أحد الجدران، بينما كانت الرطوبة تتسلل إلى فروة رأسي، وبدأت أشعر بخصلات شعري تفقد استرسالها، وتتقلص وتقصر، بينما بدأ بعضها يقفز في الهواء ويهتز..
أغمضت عيني واستسلمت لمصيري، هل كنت أبكي؟؟ هل كانت هذه التي على خدي دموعا أم حبات مطر؟؟ لم أستطع أن أحدد، كنت أريد في تلك اللحظة الموت فقط..
– دنيا… حبيبتي…
فتحت عيني، لأرى محمود واقفا أمامي، ساندا يديه إلى الجدار، محاولا بجسده الفارع أن يحميني من المطر..
– لم أكن أعرف أنك تكرهين المطر إلى هذا الحد..
كانت خصلاته المسترسلة قد تجمعت والتصقت بجبينه، بينما المزيد من خصلات شعري تلتف وتقصر وتتباعد!
– لكنني ممتن للمطر… لأنك تبدين الآن كأول مرة رأيتك فيها من شرفة البيت، قبل أربعة أشهر..
قبل أربعة أشهر!!
ابتلعت ريقي، وشعرت بقلبي يخفق بعنف، تذكرت مكواة الشعر الجديدة التي وصلتني قبل شهرين فقط، تذكرت شعري المجعد الذي كنت أحبسه بحلقة مطاطية إلى قفا رأسي في كل مرة كنت أدلق فيها دلاء الماء لأشطف بلاط الحديقة… تذكرت حفلة التراشق تلك مع بنات خالاتي..
– أنت رائعة الجمال الآن يا دنيا… تماما كتلك المرة الأولى…
استرخي جسدي المستند على الجدار.. ابتسمت، بينما قطرات الماء تتساقط عن نوابضي المهتزة، أما على وجهي.. فلم تكن تلك حبات مطر أبدا.. بل كانت دموعا.. دموعا…دموعا حارة..!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.