في السجن كان يقول لي: "لولاها ما صبرتُ على الحبسِ ساعةً واحدة"، كانت أصغر منه بأعوامٍ ليست قليلة، لكنها -بقُدرة قادر- استطاعت أن تتوسط له عند الزمان فتجعله أصغر من عمره مرتين، حتى صارا أبناء المرحلة العمرية نفسها، لا تستطيع أن تتبين الفارق إلا من لون شعره، لكن إن خبأتُ لك الوجهين وتركتُ حكمك للعيون وحدها، فلن تقول إلا ما يقول الجميع: "فولة وانقسمت نصين".
يتهلل وجهه ساعة الزيارة، ومن عظيم حظي أنه كان يصحبني معه لأحمل ما حملَتْه له من أغراض، وما أتت لي به من مخبوزاتٍ أحبها، لأنني يوسف -أو بابا يوسف كما يحب أن يناديني عم سعيد-، يستقبلها وبينهما حاجز عريضٌ يحول بينهما وبين الحضن، فيتحايلان على المسافة ويضم رأسها على الأقل. في كل مرةٍ في الزيارة التي لا تكمل الدقيقة الواحدة، يكون حريصاً على مغازلتها بعبارةٍ جديدة: "إيه العسل دا؟" "بقى القمر دا بتاعي يا ناس؟" "أمك أجمل منك يا رحمة". تضحك، وينادي الضابط الاسم الذي يليه، فيودعها كما استقبلها، مقبِّلاً يدها ورأسها ووجنتيها.
تلك الليلة كان متكدراً، لم يشكُ ولم يتكلم، أقام نصف الليل كعادته -كانت زنزانة جنائيين، عم سعيد لم يكن سياسياً-، في الصباح استيقَظ مبكراً أو لم ينم أصلاً، تركتُه ولم أسأله، اكتفيت بتربيت كتفه وأنا أعلم أنه سيحكي بعد قليل، قال لي إن وجع الغضروف يشتد عليها أكثر، يتوسل إليها أن تغيب يوماً واحداً عن الزيارة ولا تطيعه، تقول له: "أموت لو مشوفتكش يوم يا سعيد"، يقول لي: حاول أنت، طمئنْها وأخبرها ألا تأتي، آخذ منه الهاتف محاوِلاً تطييب خاطر كل من العصفورين، أتوسط لكل منهما عند الآخر وأنا أكتم ضحكتي بأقصى درجات ضبط النفس، أحاول وأفشل، تساومني بالمخبوزات التي أحبها، فأقبل، وعند العصر تخرج من البيت، تقطع عرض البحر على "المعدية"، تركب الميكروباص، ثم سيارة نصف نقل مكشوفة، وبعد ساعةٍ تكون وصلت عندنا، تقف في الطابور الطويل منتظرةً دورها، وبعد قليل ومع اقتراب المغرب يُنادي العسكري: "سعيد محمد أحمد" فيخرج الرجل مهرولاً، يقول عم جمال وضحكته تصل غرفة المأمور بالأعلى: "شوف الراجل؟! مِن شاف أحبابه يا عم سعيد! الله يسهل لك"، يضحك الجميع وأجري خلفه في الطُرقة لأشاهد الفيلم القصير من بدايته، وعلى ما يبدو فإن كل الواقفين في الزيارة ينتظرونه مثلي. ينزل تتر النهاية وتقول لي: "خلِّ بالك من عمك سعيد يا يوسف" يقول لها: "دا بابا يوسف متقلقيش".
اشتد ألم الغضروف عليها أكثر، ولأول مرةٍ لم تستطع التحامل على نفسها لتأتي، لأنهم حملوها إلى المستشفى، جلسَ كالطفل الصغير في الزاوية، نام جالساً، وحين أفاق فزِعاً أدار وجهه إلى الحائط وأكمل شِبه نومه اليائس، لونُ شعره بدا أبيض أكثر رغم بياضه من البداية، وتفاصيل وجهه أطلت علينا بوضوح كأنه شاخ فجأة.
في الفرصةِ التي تمكنا فيها من إخراج الهاتف المُهَرَّب من قمقمه اتصل بها، بدا صوتُها أفضل من ذي قبل، والدواء –بفضل دعوات الرجل- كان قوي المفعول، وفي لمح البصر صار يضحك ملء فمه، وهنا ظهر عم جمال مجدداً: "شوف الراجل؟! مِن سمع صوت أحبابه يا عم سعيد! أيوه كدا"، والرجلُ في وادٍ آخر لا يسمع إلا صوت نصفه الآخر، يضحك حتى يسعل، ناولني الهاتف لأقول لها "ألف سلامة"، أوصتني به مجدداً وطمأنتني أن كل شيء بخير ما دام صغيرها –الكبير- بخير.
في اليوم التالي، لم تأتِ السيدة عصراً كما هو محدد لميعاد الزيارة، أتت صباحاً! اخترقت القوانين والأعراف وهي تعلم أنها لن تراه، حاولَت ولم تفلح، لكن وجدنا العسكري يحمل لنا أكياساً تفضحها رائحتها، تفوح منها "الطعمية الساخنة" و"الفول المدمس" و"المسقَّعة"، وكانت هذه هديتها لحبيبها، وفي الوقت نفسه كانت الطعمية اعتذار "أم رحمة" لنا لأن عم سعيد تغيب عن نشر البهجة في الزنزانة يوماً واحداً، وبالتأكيد لا أحتاج إلى ذكر كمية المخبوزات وأنواعها المخصصة ليوسف فقط. كانت "أم رحمة" أم رحمة فعلاً.
عِشتُ القصة مِن قرب، رأيتهما في الشدة كيف يلينان، وفي الشجن كيف يضحكان، وفي البؤس كيف يحلمان، وفي السجن كيف يتحرران من العساكر والحديد والقيود، رأيتُ "حب زمان" الذي يبحث عنه الجميع، لكن لم يكن بين "أفندي" و"هانم" كما صوروه لنا دائماً، وإنما بين عاملٍ بسيط يبلغ من العمر خمسة وخمسين عاماً، يعمل بالسيراميك والبلاط منذ عقود، وسيدة في الخامسة والثلاثين من عمرها تحمله في عينيها، عشت هذا كله وأجاباني على معظم أسئلتي حول الحنان والرفق والحب، لكنني وقفتُ متحيراً أمام سؤال واحد: هل كانت هذه أسماءهم من البداية أم بعد أن عرف كل منهما الآخر؟ هل كان "سعيد" اسمه من البداية أم بعد قدومها؟ وهل كان "أم رحمة" كنيتها أم صفتها؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.