رائحة أبي، ملمس يدَيه، جسده البارد، نبضات قلبه التي تتزايد تارةً، وتهبط تارةً أخرى، معدل النفَس الذي لم يتجاوز بضع دقائق؛ حتى صار صفراً، صوت أحدهم مردداً: إنا لله وإنا إليه راجعون.
صوت نفَس أبي الأخير يتردد إلى مسامعي كل ليلة، سلامة وجهه وهدوء نفسه ظناً أنها تنهيدته المعتادة، حتى أدركنا أنه أسلم الروح في طُهرٍ وإيمانٍ.
دعاء أمي، دموع أخي، ونحيب إخوتي، نظراتُنا المشتتة، عيوننا المليئة بالدموع حينما تتلاقى، أجد رد سؤال جال في خاطري أن ذاك "هو كده بابا مات؟!".
أردت أن أذهب إلى أبي وأخبره أنني فقدته، علَّه يجد لي حلاً كما العادة، عله يضمني إلى صدره ليزيل آلامي، علَّه يردد على مسامعي: "أنا حي".
علّي حينما أنام على صدره أستمع إلى نبضات قلبه، وترتفع صوت أنفاسه؛ مثلما اعتدت!
لا أجد جسداً خاوياً من روح أبي، بل لا أجد روحي.
حينما عُدت للمنزل ووجدت ساحته ممتلئة تماماً.. لكن دون صوت أبي، تمايلت عليَّ إحدى صديقاتي قائلة: "عيطي يا تسنيم كأن مفيش وجع ف الدنيا غير وجعك انتِ وبس".
تمنيت حينها لو بمقدرتي أن أبكي على عمري، وبعد عمري الذي ذهب لمستقر رحمة الله، حيثُ جنات النعيم لا مرض ولا ألم، وأنا بدأت في رحلة الشقاء والوجع، أردت أن أصرخ بصوت عالٍ جداً، أنادي عليه علَّه يخبرني لِمَ كل هذا الجمع من الناس؟!
علَّه يخبرني أن مَن مات اليوم ليس هو ليس حبيبي.
علَّه يخبر الناس أنني صغيرة جداً على هذا الألم.
صغيرة على أن أكمل ما بقيَ من عمري دون ما أبي.
صغيرة على عبارات الفقد الساذجة المكررة وغير الواقعية، فكيف أخبرهم أن مَن مات أبي؟! ليس أباً عادياً، أو أستاذاً جامعياً، وليس رجلاً بلغ من العمر أرذله، كيف أخبرهم أن لا أحد يمتلك أباً مثل أبي!
أبحث بعيون خاوية شريدة عن أبي علّي أجده في زاوية ما في المنزل.
علّي أجد أحداً يخبرني أنه يمكث في فراشه مثلما اعتدت لا قبره!
علّي أجد صدر أمي يسع لبكائي دون أن أثقل عليها وجع فقد حبيبها وحبيبي، علّي أجد صدر إخوتي قادراً على حمل هذا العبء عني، علّي أجدهم أقوياء فأتكئ عليهم، لكن في هذه الساعات الأولى من الفقد تساوينا جميعاً في آلامنا، وأصبح كل منا يتمنى لو أن ينتزع ألم الآخر عنه، كلنا في هذا اليوم فقدنا الحبيب الأولي.
تنظر إلى صورته المعلقة فوق سريرك التي في كل وقت وحين تذكرك أنه ليس بجوارك ولكنه مطلع عليك.
تستنشق عبق رائحته العطرة التي تأبى أن تفارق الغرفة، مهما امتلأت بالأشخاص والروائح.
تضم ثيابه العطرة المزينة بعض الشيء بدمه، تذكرك كم من مرة ضممتها، وطيبت حرقتها في جسده، حتى حفظت تفاصيل جسده الصغيرة.
تضم معطفه الذي كان يرتديه ويضمك فيه لبضع دقائق في كل صباح شديد البرودة فتكتفي بدفء تلك الدقائق اليوم بأكمله.
اشتدت البرودة منذ رحيله، فلا تجد مَن يصلي بك إماماً في صلاة الفجر، ولا تجد من يرتل كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، فتشتد وحشة المنزل مهما امتلأ بالأحبة.
أعتقد أن عقولنا أصغر بكثير من استيعاب الفقد، كأن الليالي الموحشة المليئة بالبكاء لا تفي بالغرض، ولا تنفع للصبر، نحن نمرض حينما نفقد، ولا نتعافى أبداً مهما حيينا.
أنا أعلم جيداً أن قلوبنا هشة، مهما بلغنا من قوة، أعلم أن السنة الكونية والحقيقة التي لا ريب فيها مثل الحياة والموت هو الألم، لا سبيل لزواله أو التخفيف من وطأته على النفس والروح، ولا سبيل لاجتيازه، لكن أعلم أنني سأعتاد على ذكرك بصيغة الماضي، بالرغم من كونك حاضراً بقلبي، حتى أنني اعتدت الثياب السوداء، المكوث أمام القبر لساعات طويلة دون رد منك على سؤالي: "انت مُت يا بابا؟!".
أتعلم شيئاً يا أبي؟!
أظن أن الجرح يتجدد كلما تذكرت تفاصيل رحيلك، فيصبح أشد حرقة وألماً، أظن أن مشاعري في كل دقيقة تتجدد كأني للتو شعرت بها.
الأيام تثقل روحي يا أبتِ، أستيقظ كل يوم بوجه جديد، كأنني بالأمس كنت فتاة واليوم عجوز منهكة.
أعتقد أنني تجاوزت أيام فقد أبي الأولى بلطف كبير من الله، والآن واليوم وفي كل يوم أبكي كأنها ساعات فقده الأولى.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.