مَن قتل محمد مرسي؟

عربي بوست
تم النشر: 2019/06/19 الساعة 10:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/06/19 الساعة 12:17 بتوقيت غرينتش
لقد تعفَّن مرسي في السجن، نُسي من الجميع باستثناء حفنةٍ من نشطاء حقوق الإنسان

واجَه أول رئيس مصري منتخَب ديمقراطياً نهاية دراماتيكية تشبه نهاية سنته الأولى الوحيدة في السلطة.

إن تاريخ الوفاة بحد ذاته مهم، فقد مات محمد مرسي في 17 يونيو/حزيران 2019، بعد سبع سنوات من اليوم الذي انتهت فيه الدورة الثانية لانتخابه رئيساً.

طوال وقته في السجن، اُحتجز مرسي في الحجز الانفرادي. وسُمح له فقط بثلاث زيارات من عائلته خلال حوالي ست سنوات. كان لدى الدولة فرصة كبيرة لقتل الرجل المريض بالسكري الذي يعاني من ارتفاع الضغط بعيداً عن الأنظار، لكنهم إذا أرادوا إقناع الشعب المصري بأن رئيسهم السابق قد مات، فيجب أن يتم هذا علناً، وهذا هو المغزى من كل ما حدث يوم الإثنين الماضي.

الفرعون الأقسى

لن نعرف الحقيقة أبداً، فعدو مرسي، الرجل الذي اختاره الأخير لقيادة الجيش، والذي عمل على إسقاطه (عبدالفتاح السيسي) لن يسمح مطلقاً بتحقيق دولي. فمصر تُحكم من قِبَل فرعون مطلق، وأقسى من أي فرعون عرفته في تاريخها الطويل.

ولكن حتى لو مات مرسي في السجن بشكل طبيعي، فمَن هم المسؤولون عن موته أمام محكمة التاريخ؟

كم هو سهل ومريح أن يُلقى باللوم كاملاً على السيسي نفسه. كم هو مفيد للزعماء الغربيين أن يهزوا أكتافهم ويتحدثوا بلغة استشراقية متوقعة، بأن نظاماً مثل السيسي هو أمر تعودنا عليه في "هذه المنطقة الجارة القاسية".

كانت ردة فعل الرئيس الأمريكي السابق غير العلنية على مجزرة رابعة بعد أسابيع من الانقلاب العسكري شكلاً آخر، ولكن بنفس "الثيمة"؛ فقد نشرت تقارير أنه أخبر مساعديه بأن الولايات المتحدة لن تستطيع مساعدة مصر إذا قتل المصريون بعضهم. هذا التعليق بحد ذاته يشرح لماذا الغرب يتدهور: ردة فعل أوباما على أسوأ مجزرة منذ مجزرة "ميدان تيانانمين" في الصين كانت العودة لإكمال لعبة الغولف.

لقد وُضع مرسي في الحبس الانفرادي لحوالي ست سنوات، فكم مرة ضغط الزعماء الغربيون على السيسي خلال هذه الفترة لزيارته؟ ولا مرة!

وعندما حاول مساعدو وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، جون كيري، إقناعه بضرورة الضغط على السيسي للسماح للصليب الأحمر بالوصول إلى المعتقلين في السجون، ردَّ عليهم مهاجماً: "أعطوني سياسة لا تجعل المصريين يصرخون عليَّ بسببها"، بحسب ما أخبرني مصدر مطلع على الحادثة مؤخراً.

فوق القانون

كم عدد الزيارات عالية المستوى التي سُمح للسيسي بها خلال اعتقال مرسي؟ لقد اُحتفي به على الساحة الدولية حول العالم، وباعته فرنسا طائرات من نوع "ميسترال"، فيما باعته ألمانيا الغواصات. وسُمح للسيسي باستضافة قادة العالم من الجامعة العربية والاتحاد الأوروبي في شرم الشيخ هذا العام، بزعم دعم النظام العالمي، وبدلاً من أن يأخذ السيسي منهم دروساً في حقوق الإنسان، فإنه هو مَن أعطاهم الدروس. وقال للزعماء الأوروبيين متحدثاً عن ارتفاع حالات الإعدام في مصر خلال هذه السنة، إن إعدام المعتقلين هو جزء من "إنسانيتنا" التي تختلف عن "إنسانيتكم (الأوروبية)".

وقال رئيس المجلس الأوروبي، دونالد تاسك، في المؤتمر: "إن النظام العالمي المبنيّ على قواعد يتعرض للتهديد بشكل واضح"، مضيفاً: "لقد اتفقنا هنا في شرم الشيخ على أن الطرفين سيعملان معاً للدفاع عنه.. وتبقى الحلول التي تشترك فيها الأطراف جميعاً هي الطريقة الأمثل لمواجهة التهديدات للسلام والأمن العالميين".

ما هي علاقة السيسي بالنظام "المبني على القواعد" يا سيد تاسك؟ مع مَن تمزح؟

الرئيس المصري يقف فوق القانون، خارج نطاق الانتخابات والبرلمان، بعيداً عن أي إطار قانوني، أو عن الدستور نفسه. هذه العناصر كلها هي الشمع الناعم في يديه، وهي عبارة عن أدواته في اللعب. سيحكم ما دام حياً، وبشكل مطلق، مثله مثل أي حاكم آخر في مصر والشرق الأوسط.

لقد تعفَّن مرسي في السجن، نُسي من الجميع باستثناء حفنةٍ من نشطاء حقوق الإنسان، الذين وجدوا أنفسهم يصرخون في غرفة فارغة. العالم تابع مسيرته، ونسي تماماً الرجل الذي توافد إليه الجميع للتوّ.

ومع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لم يتم غض النظر عن قمع السيسي لمعارضيه السياسيين فحسب، بل تمت الإشادة به. وعند سؤال ترامب إذا ما كان يدعم جهود السيسي للبقاء في السلطة لخمسة عشر عاماً أخرى؟ قال: "أعتقد أنه يقوم بعمل رائع. لا أعرف عن هذه الجهود، ما أستطيع أن أقوله لك أنه يقوم بعمل رائع.. رئيس عظيم".

إذاً مَن المسؤول عن موت مرسي؟ انظر حولك. إنهم يدعون أنفسهم بقادة العالم الحر.

إرث مرسي

مرسي لم يمُت من فراغ، على الرغم من أن الأمر قد يبدو كذلك اليوم. لقد كنت أنا وزميلي الصحفي "باتريك كينغسلي" آخر الصحفيين الذين قابلوه، قبل أسبوع فقط من الإطاحة به. لقد فاجأني مرسي باعتباره رجلاً جيداً في ظل الأحداث التي خرجت سريعاً عن سيطرته، حتى المكان الذي صورناه فيه لم يكن مكان سلطته الرئيسي الذي كان قد نُقل منه مسبقاً مع موظفيه. كانت السلطة تنزلق من قبضته، حتى عندما أعلمني أنه يملك إيماناً مطلقاً بجيشه. لقد كان أفضل رجل أمام العامة، وكان يستطيع التواصل بشكل أفضل جداً في حديثه بعيداً عن الأنظار مما كان الحال عليه في العلن.

لقد فشل غالباً في جعل خطاباته مفهومة، لكنه ألقى خطابَين مهمين خلال رئاسته؛ الأول كان يوم قسمه باليمن رئيساً. أراد مرسي أن يقسم اليمين في ميدان التحرير، أمام الثورة التي أوصلته للحكم. لكنه أُعلم بأن القَسَم يجب أن يتم أمام المحكمة الدستورية المدعومة تماماً من الدولة العميقة، والتي تضم أعضاء سعوا بكل وسيلة لمعارضته.

وفي نهاية الأمر، فعل مرسي ما كان متوقعاً منه، وأقسَم مرتين؛ واحدة أمام المحكمة والدولة العميقة، والأخرى أمام الشعب المصري في ميدان التحرير.

وكما بِتنا نعلم الآن، فقد عرض مرسي على كل من حمدين صباحي وأيمن نور مناصب عليا. طلب من نور تشكيل الحكومة التي يريدها، ولعله من السخرية أن مرسي أخبر نور بأنه يجب أن يشمل في وزارته وزيراً واحداً، هو السيسي كوزير للدفاع. ولم يعلن صباحي ونور عن هذا في ذلك الوقت، لكنهما أقرا به الآن.

وبِتنا نعلم الآن أيضاً، أن حركة تمرد، وهي الحركة الشعبية التي أُسست لتسجيل استمارات لمعارضة مرسي، كانت قد شُكلت من قِبل الاستخبارات العسكرية، باعتراف أعضاء مشاركين في تأسيس الحركة.

إن هذا لا يُعفي الإخوان المسلمين من مسؤوليتهم عما حدث، فقد كان الرئيس الإخواني محكوماً عليه من البداية وفق كل الاحتمالات. وكان هناك محطات عديدة تخلى فيها الإخوان عن ميدان التحرير لدعم الجيش الغادر الدافئ. لقد ارتكبوا أخطاء وسوء تقدير فادحة، ولكن هذه الأخطاء لم تكن بحد ذاتها هي السبب في ما حصل لاحقاً.

بطل ديمقراطي

كان مرسي نفسه رجلاً مخلصاً، ودمقراطياً حقيقياً. وفي معظم السنة التي كان فيها بالحكم، لم يكن مسيطراً فعلاً، ووُضع في دوامة أصبحت مع الوقت كبيرة جداً بالنسبة له.

مَن المسؤول عن موت مرسي؟ جميعنا. سيستفيد من موت مرسي طرفان فقط: السيسي والنظام العسكري من حوله، وتنظيم الدولة الإسلامية الذي "تمنى له الجحيم وأسوأ المآلات".

ما قاله مرسي في ميدان التحرير يستحق الإعادة، حيث قال: "شعب مصر، أنتم مصدر السلطة. تعطونها لمن تريدون، وتمنعونها عمن تريدون". وقد عنى ما قاله، وهو مستوحى بشكل قريب جداً من آية قرآنية تقول "تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء". لقد كان هنا "إسلامياً" يقول للناس إنهم مصدر السيادة.

حماية الثورة

حمل خطاب مرسي الأخير رسالة ديمقراطية مدوية مماثلة. فقد خاطب الأجيال القادمة: "أريد حماية البنات اللواتي سيصبحن أمهات المستقبل، وسيعلمن أبناءهن أن آباءهم وأجدادهم كانوا رجالاً حقيقيين لم يخضعوا للظلم، ولم يتماشوا مع الفاسدين، ولم يتنازلوا أبداً عن وطنهم وشرعيتهم. حافِظوا على الثورة. حافظوا على الثورة التي حصلنا عليها بعرقنا ودماء شهدائنا، وبسنتين ونصف من المظاهرات. يجب أن تحموها، سواء كنتم مؤيدين أو معارضين، إياكم أن تُسرق الثورة منكم".

لقد حصل هذا بالفعل، وسُرقت الثورة، ليس فقط من قِبَل الجيش الذي لم يكن ليسمح لرئيس من الإخوان المسلمين أن يستمر، بل سُرقت أيضاً من قِبَل نخبة القاهرة الليبرالية التي شجبت مرسي باعتباره ديكتاتوراً إسلامياً، وسُرقت كذلك من قِبَل السياسيين الذين قالوا كذباً إن مرسي استحوذ على السلطة كاملة لنفسه، ولم يتمكن من مشاركتها مع الآخرين.

لقد كرَّس مرسي حياته لشعب تخلى عنه، وإذا كان "سيد قطب" قد أصبح قبلَه بطلاً للإسلاميين، سواء كانوا من الإخوان أو القاعدة، فإن إرث مرسي سيكون إرثاً ديمقراطياً.

لقد ألقى مرسي قصيدة قبل انهياره في المحكمة:

بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة.. وأهلي وإن ضنّوا عليَّ كرام

إن الرجل الذي يُحتفى به الآن على مواقع التواصل الاجتماعي باعتباره "الرئيس الشهيد" سيتمتع في موته بوضع لم يكن ليحصل عليه أبداً في حياته. لقد تعهد حتى نهاية حياته بأنه لن يعترف أبداً بالانقلاب العسكري الذي أطاح به. هذا هو إرث مرسي، وإنه لإرث مهم.

 
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ديفيد هيرست
كاتب صحفي بريطاني
ديفيد هيرست، رئيس تحرير موقع Middle East Eye البريطاني، وكبير الكتاب في الجارديان البريطانية سابقاً
تحميل المزيد